انتعاش الأسواق وحيوية الحركة الاقتصادية والتجارية بالمغرب.. أيام السلطان مولاي الحسن الأول
حسب شهادات الفيكومط شارل دو فوكو سنة 1883-1884

بقلم: الأستاذ محمد حمام
استطاع المغرب طيلة حكم السلطان مولاي الحسن الأول التصدي لكل المؤامرات التي كانت تحبكها ضده الدول الأوروبية المتنافسة عليه. ولما كان هذا السلطان واعيا بخطورة المرحلة التي كان يجتازها المغرب آنذاك، عمل جاهدا على تحصين المغرب من الداخل عن طريق استتباب الأمن. ولتحقيق هذه الغاية نظم العديد من الحركات إلى كثير من مناطق البلاد لتهدئة القبائل وتفقد أحوال الرعية.
ولا يخفى ما للأمن من أهمية في الإسهام في تنمية الحركة الاقتصادية وتنشيطها. وقد قام نفس السلطان بإصلاحات أخرى تهم المجال الاقتصادي وخاصة منها التي تتعلق بالجانب المالي. وكانت تهدف إلى تحسين الوضعية الاقتصادية للبلاد. ودون أن نقوم بدراسة السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي نهجها مولاي الحسن الأول لأن المقام لا يتسع لها هنا، سنكتفي برصد انتعاش الاقتصاد المغربي في أيامه من خلال كتاب “استطلاع عن المغرب” للفيكومط شارل دوفوكو الذي زار المغرب لأغراض استخباراتية لصالح بلده فرنسا سنة 1883-1884.
ومعلوم أن دوفوكو تنكر في زي يهودي رفقة اليهودي المغربي مردوشي، فسجل مشاهداته وانطباعاته حول المغرب في هذا الكتاب. وبغض النظر عن الخلفية الاستعمارية التي انطلق منها، فإن مؤلَّفه هذا مفيد لدراسة بعض مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فعديدة هي المعلومات ذات الصبغة الاقتصادية التي أوردها في نفس الكتاب، وهي قمينة بأن تعطينا صورة واضحة عن مدى انتعاش الأسواق والتجارة بالمغرب خلال نفس الحقبة. وحري بنا الآن أن نستعرض تلك الشهادات تباعاً بدءاً من بداية رحلة دوفوكو عبر المغرب إلى نهايتها.
من طنجة إلى تطوان: (ص. 3):
يقول دوفوكو بأن المنطقة التي تفصل بين المدينتين تتخللها أودية واسعة تمتد عليها حقول القمح الواسعة، وتتميز كذلك بكثرة مياهها. وأثناء مروره بالسهل لقي في طريقه عدداً من المارين الراجلين، أغلبهم فلاحين كانوا في طريقهم إلى حقولهم. وكان من بينهم عدد من النساء القرويات، وهن غير منقبات الوجوه، مشيرا إلى أعداد كبيرة من الماشية بما فيها الأغنام والأبقار. ويزيد ملاحظا أن ما لفت انتباهه بخصوص أبقار هذه المنطقة طول قامتها.
مدينة تطوان: (مدة الإقامة: 10 أيام) (ص. 4-5):
مدينة توجد في هضبة صخرية تحيط بها جبال عالية من ناحية الشمال والجنوب وتوجد على أطرافها القريبة، أجمل حدائق الدنيا. ترويها آلاف العيون، وهي ذات مظهر زاهي: مدينة حسنة البناء ولكنها أقل اتساخا من أغلب المدن المغربية. لها قصبة أقيمت في الشمال الغربي من المدينة، محاطة بسور مبني بالطوب علوه 5 أمتار، وسمكه ما بين 30 و40 سنتيمتراً، وتوجد منتصبة بجنبات كل باب من أبواب المدينة بعض المدافع المقطبة الوجه، الغرض منها التخويف.
مدينة تطوان مدينة كبيرة، لكن أحياءها الخارجية غير مسكونة، وهي مخربة جزئيا. تتوفر المدينة على مساجد كثيرة، والملفت للنظر برجُها الضخم المقام بالمشور.
يوجد بالمدينة حي تجاري منتعش خاصة يوم الأربعاء الذي هو يوم السوق، بها كذلك ملاح وهو من أنظف وأحسن الملاحات التي رأيتها بالمغرب، ساكنة المدينة تقدر بـ 20.000 أو 25.000 ألف نسمة، منها 6000 آلاف يهودي.
تتميز الأراضي المحيطة بها بخصوبتها وتنتج الفواكه، وهي ذات شهرة في شمال المغرب كله، وتكون موضوع تبادل بينها وبين مدن أخرى مثل القصر الكبير وفاس، وتتوفر بادية تطوان، خاصة باديتها الممتدة بين الجبل والبحر على حقول فسيحة يزرع بها القمح وتتخللها أيضا ضيعات وحدائق.
ـ مدينة شفشاون (ويسميها شيشاون Chechauen ص. 9):
يصف المدينة بأنها ذات منظر خلاب وأخاذ. تتوفر على برج قديم يتميز بهيئته الفيودالية. منازلها مغطاة بالقرميد. عيونها تتموج في جميع الاتجاهات، ويخيل أنك في إحدى القرى الهادئة بجنبات وادي الراين. شيشاون يقطنها عدد مهم من الشرفاء: سكانها يتراوحون ما بين ثلاثة أو أربعة ألف نسمة من بينهم عشر عائلات يهودية. يقام بها السوق يوم الأحد، وهي مدينة مفتوحة وراءها ينتصب عاليا جبل مزجل Mezdjel. وأمامها على سفح الجبل تمتد الحدائق الجميلة تنتج الفاكهة، وخاصة العنب المعروف في شمال المغرب كله، وهي كذلك مشهورة بعذوبة مائها.
ومما يدل على الرواج الموجود بين هذه المدينة ومحيطها، أن دوفوكو لقى كثيرا من الناس أثناء مروره بالبادية في اتجاه المدينة.
ـ وعند حديثه عن الأسلحة النارية التي كان المغاربة يستعملونها في ذلك الوقت، أشار إلى مختلف أنواع البندقيات المعروفة، وقال بأن معظمها كان يصنع بمدينة تطوان.
من تطوان إلى فاس: الفندق (ص. 12):
ليلة 4 يوليوز 1883 قضاها دوفوكو في مكان يسمى الفندق ولعله الفنيدق الحالي، ويقول عنه: بناية واسعة محصنة مربعة الشكل، وتحيط بداخله سقيفة يقيم تحتها المسافرون، وفي وسطه تربط الدواب، ومقابل هذه الإقامة كان صاحبها يأخذ تعويضا عن كل شخص وعن كل دابة. يبيع الشعير والتبن ومثل هذه المؤسسات قليلة ببوادي المغرب، ولكنها كثيرة بالمدن. وفوق السقيفة يعلو طابق يتوفر على بيوت صغيرة، لها أبواب تغلق وتفتح بواسطة المفاتيح يكريها المسافرون: وهي أماكن الإيواء الوحيدة بالمغرب، ويظهر أن هذا الفندق كان يرتاده الناس كثيراً. وفي مساء ذلك اليوم وجد به قرابة خمسين مسافراً، وبوسطه عدد كبير من الدواب: خيول، وحمير، وبغال، وجمال تختلط فيه مع الأغنام والأبقار.
سوف أربعاء بداوة:
توقف دوفوكو في دار بقبيلة بداوة التي توجد ضمن إيالة العرائش، وقال بأن في هذا المكان يقام سوق أسبوعي كان يسمى سوق أربعاء بداوة، لكنه لم يعط تفاصيل أخرى عن هذا السوق، وما هي المواد التي كان الناس يتبادلونها فيه. (ص. 13).
القصر الكبير (يوم 7 يوليوز 1883) (ص. 14-15):
يقول بأنها مدينة لم تكن اليوم في مستوى الاسم الذي تحمله، إذ لم تعد كبيرة ولم تكن محصنة، غير حسنة البناء، منازلها غير مصبوغة، مما يظهرها بمظهر الاتساخ والحزن. “وهي أقبح مدينة منظراً رأيتها في المغرب، المياه غير متوفرة بها… سكانها يتراوح عددهم ما بين 5 و6 آلاف نسمة، من بينهم ألف يهودي، وكان اليهود يقطنون بملاح خاص بهم، لكنه ضاق بهم وسمح لهم بسكنى أي مكان يرغبون فيه في المدينة كلها، ومع ذلك فمن الصعب العثور على مسكن بهذه المدينة”.
ومما تتميز به هذه المدينة كثرة اللقالق ، فليس هناك منزل واحد لا يتوفر على عش لهذه الطيور، وبها كان يقطن العامل ممثل قائد العرائش. وعلى مقربة منها تمتد بساتين جميلة مغروسة بأشجار البرتقال تُسقى بالناعورة، لكنها لا تنتج كثيراً من الفواكه، فالفواكه المستهلكة بهذه المدينة كانت تأتي إليها إما من طنجة أو تطوان.
مُقام دوفوكو بفاس:
ـ قبل الوصول (ص. 19):
يقول دوفوكو إنه قبل وصوله إلى فاس، لاحظ أن المنطقة القريبة من هذه المدينة والتي تقع بينها وبين وادي سبو، هي منطقة غنية جدا، فيها مزارع وقرى وكروم وأشجار الزيتون.
وصوله إلى مدينة فاس (ص. 19-23):
يقول بأنه بمجرد وصوله إليها توجه مباشرة إلى منزل يهودي اسمه صمويل بن سمحون Samuel Ben Simhoun أحد التجار الرئيسيين بهذه المدينة.
وزاد قائلا إن سكان فاس يقدرون عادة بـ 70.000 ألف نسمة منهم 3000 يهودي ويزيد، وبالنسبة إليه فهذه الأرقام غير بعيدة عن الحقيقة.
وهذه المدينة تقوم بتجارة كبيرة، فهي المركز الذي تتوارد عليه البضائع الأوروبية عن طريق ميناء طنجة من جهة، ومن جهة أخرى جلود تافيلالت وأصواف وشمع العسل، إضافة إلى جلود ماعز آيت يوسى وبني وارين، وأحيانا أخرى يصل إليها ريش السودان. فالأصواف والجلود والشمع كانت تصدر بكميات كبيرة إلى أوروبا، أما الجلود الجيدة والجميلة فإنها تبقى في فاس ويستعملها صناع مهرة وتصنع منها البلاغي والوسادات أو الأرائك والأحزمة، وهذه السلع هي من الكماليات التي كان الناس في كل شمال المغرب يقتنونها من مدينة فاس.
أما السلع الأوروبية التي تصل إلى فاس فهي المُخْمل أو القطيفة (Velours) وأثواب الحرير والقياطين (Passementerie) المزركشة المحلاة بالذهب أو الفضة التي كانت تأتي من مدينة ليون، أما السكر وعود الثقاب والشمع فكان يصل من مرسيليا. ومن باريس كانت تُستقدم الأحجار النفسية، أما المرجان فكان مصدره جنوة، وكانت السكاكين والإبر والسكر والشاي تصل إليها من إنجلترا. أما الزجاج والخزف فكان يأتي من إنكلترا أو فرنسا.
وإذا كان جزء من هذه البضائع يبقى في مدينة فاس مثل الأحجار النفيسة والقياطين المزركشة والسكاكين، فإن الباقي منها ـ وهو جزء كبير ـ يزود كثيرا من الأسواق ما بين فاس وتافيلالت. وكان كبار تجار فاس يبعثون وكلاء عنهم يحملونهم هذه المنتوجات لتصريفها في أسواق الحياينة وبني مكيلد.
وفوق ذلك، كان لهم مراسلون موزعين في أماكن عديدة من صفرو إلى الرتب بتافيلالت، وكانوا يبعثون لهم السكر والقطنيات لتصريفها لدى أيت وراين آيت يوسى وآيت سغروشن، ولدى قبائل ملوية العليا ووادي زيز. ومن جهة أخرى كانت القوافل القادمة من تافيلالت. تحمل الجلود والتمور، وأثناء رجوعها كانت تحمل معها القطنيات، والسكر والشاي، والبلاغي الجميلة التي اشتهرت فاس بصناعتها. ومن فاس كان أيضا يصدر الزجاج والعطور والإبر وعود الثقاب والخزف (Faience).
وهذه السلع كانت فاس تزود بها أيضا وسط المغرب، وكذلك جزءاً كبيرا من الصحراء الشرقية التي كانت تابعة من الناحية التجارية لوادي زيز.
تازة (ص. 30-33):
مدينة توجد فوق مكان صخري يقع على ارتفاع 83 متراً على واد تازة و130 متراً على واد إناون، مصاقبة من ناحية الجنوب لسلسلة جبلية عالية تتخللها عدة انسكارات في الشمال والغرب، وكذا انحدار مائل بشدة من جهة الشمال الشرقي. ويسهل الوصول إلى المدينة من جهة الجنوب الشرقي.
والهضبة التي أقيمت فوقها المدينة هي عبارة عن انحدار خفيف شرقاً وغرباً، وتازة هي محاطة بأسوار ثنائية في عدة نقط، وقد كانت في السابق ضخمة بدليل الأطلال المنتشرة على جنبات المدينة. أما الأسوار الحالية فليست لها أية قيمة عسكرية، لأنها مبنية بالطابية ورقيقة وقديمة، وفوق ذلك فهي غير عالية. وهذه ظاهرة قليلة، فالجزء المحاط بالسور ناحية الجنوب توجد به الحدائق، وبعد هذه المساحة نجد السور الثاني، ومن هنا تبدأ المدينة. وهنا أيضا نجد أن بعض الأماكن غير مبنية خاصة تجاه الشرق والغرب، إذ تغطيها المزروعات.
ويبدو أن تازة يقطنها حوالي 3000 إلى 4 آلاف نسمة منهم 200 يهودي داخل ملاح ضيق جدا. تتوفر المدينة على أربعة مساجد: اثنان منهما كبيران والآخران صغيران.
كان بها فندقان أو ثلاثة فنادق فسيحة وحسنة البناء، لكنها غير آهلة وأخذت في التدهور، نصف المدينة مبني بالحجر ونصفها الآخر مبني بالطوب، منازلها مطلاة بلون هو خليط بين الأسمر والأحمر، مما أعطاها مظهراً حزيناً. وهي منازل تتوفر على سطوح، كما هو الشأن في باقي المدن التي رأيتها بالمغرب، خلاف الشاون والقصر الكبير.
أغلب سكان المدينة يتوفرون على خزّانات للماء. ماؤها عذب لكنه غير كاف لحاجيات السكان ولدوابهم، ولذلك يضطر السكان للإتيان بالماء من الواد. ومدينة تازة تحيط بها البساتين الجميلة من كل الجهات، يرويها واد تازة أو العيون المتفجرة من الجبل. وهذه البساتين هي عبارة عن غابة من أشجار الفاكهة تتميز بارتفاعها الذي لا مثيل له بدون شك في المغرب كله. وهي منتشرة في السهل المحيط بالمدينة، وتمتد إلى سور المدينة وهناك ترتفع عالية وتمدِّد أغصانها فوق سطوح المنازل.
تجارة مدينة تازة (ص. 23):
أما تجارة تازة فلا قيمة لها، فالمواد الأوروبية أثمانها مضاعفة عن أثمان فاس. وهذه نتيجة طبيعية لصعوبة وسائل الاتصال، فبساتينها نفسها استولت عليها قبيلة غياثة، ولم تعد بالنسبة لسكان تازة إلا مصدر ألم.
غياثة:
قبيلة كبيرة توجد على السفح الشمالي لمدينة تازة، وتمتد أراضيها إلى وادي إناون، وهي أراضي خصبة معروفة بأشجار الزيتون وإنتاج الشعير بكثرة. وببعض جبالها توجد بعض المعادن كالفضة والحديد والكحل (الاثمد) والرصاص. وكانت تستغل خاصة هذا الأخير، فنشطت لديها صناعة البارود والرصاص.
سوق ثلاثاء حياينة (ص: 36):
سوق نشيطة، قدر عدد الأشخاص الذين كانوا به وقت وصوله إليه (أي حوالي الساعة التاسعة صباحاً) بـ500 أو 600 شخص (وهؤلاء الأشخاص كلهم كانوا حاملين للسلاح: سيف على الجانب والمدفع على الكتف)، تباع به الحبوب والدواب والأنعام والقطنيات والبلاغي والزيت والسكر والشاي، وتذبح به أبقار وأغنام وماعز تباع بالتقسيط. وحوالي منتصف النهار أخذ الناس يتفرقون، وكل واحد اتخذ وجهة قريته.
نزهة في صفرو: (20 غشت 1883، ص. 38):
قرية البهاليل:
يصفها بأنها قرية كبيرة مزدهرة، منازلها حسنة البناء تحيط بها بساتين جميلة. وهي إلى جانب بساتين صفرو وزرهون، تشكل المحاط الزراعي الذي يغذي مدينة فاس. ومن هنا تتراءى لنا بساتين صفرو، تمتد من أقدامنها على شكل كتلة داكنة يؤدي إليها حاذور خفيف، وفي وسطها توجد المدينة، وهي تغطيها أشجار عالية، فلا تتراءى للناظر إلا بعد أن يصل إلى أبوابها. بساتينها فسيحة وخلابة لم أر مثلها في المغرب، كثيفة الأشجار والأغصان المثقلة بالفاكهة. فالتربة دائمة الخضرة، وتتفجر عيونا عديدة. وهنا ينتقل دوفوكو ليقارن بين بعض المناطق التي يذكّرها له هذا المنظر الجميل، فذكر أنه يُذكّره بالشاون وتازة وفشتالة وبني ملال ودمنات التي تظل كلها أماكن جميلة، لكن صفرو تبقى أكثر شهرة.
ومدينة صفرو محاطة بأسوار بيضاء ذات مظهر نقي جميل، وحينما يتجول بها الإنسان يلاحظ مدى الازدهار الذي تنعم به المدينة وهو ازدهار لا نجده في أية مدينة أخرى بالمغرب. فإذا كانت تلاحظ مظاهر التدهور في عدة أماكن، فإنه على العكس من ذلك، فإن ما يلاحظ هنا في صفرو هي مظاهر التطور، فلا وجود هنا لأراض وسكنى خالية. وقد أقيمت بالمدينة منازل جميلة من عدة طوابق ذات مظهر خارجي جديد ونظيف، أغلبها مبني بالآجر (brique)، ومصبوغة بالأبيض، وعلى سطوح المنازل تمتد الكروم المغروسة في الفناءات، وهناك تكوِّن أحبولات (نوايل أو نوالات)، وفي وسط المدينة يجري نهر صغير عليه ثلاث أو أربع قناطر لعبور المدينة من شطر إلى آخر.حوالي ثلاثة آلاف نسمة تقطن المدينة من بينها ألف يهودي، بها مسجدان وزاوية لأحفاد الحسن اليوسي، وهم درقاوة.
غنى صفرو (ص. 39):
يقول دوفوكو إن غنى وثراء مدينة صفرو يعود إلى عدة عوامل:
التجارة القائمة بينها وبين القبائل المجاورة كآيت يوسى بني وراين وغيرهما، إذ كانت هذه القبائل تقتني منها السلع الأوروبية، ومقابلها كانت تأتي منها مدينة صفرو بالجلود وخاصة الأصواف بكميات كبيرة. وقد كانت أصواف بني وراين أكثرها شهرة، وهذه الأصواف تخدم في صفرو، فتخضع للغسل والتنقية. وهذا العمل يُشغِّل عددا مهما من سكان المدينة، وبعد ذلك تباع في فاس، وفي أحيان أخرى تباع مباشرة في مرسيليا.
مرور قوافل تافيلالت بها، وكذا تجارتها مع قصبة الشرفاء والجنوب.
بساتينها المنتجة لعدد كبير من الفواكه: الزيتون، والليمون، وحب الملوك، والعنب بكثرة ومنه يصنع النبيذ الجيد (مائة ليتر بـ 10 فرنكات).
أخشاب الأرز التي تأتي من جبل آيت يوسى والتي تصدرها إلى مدن شمال المغرب.
كما أن المدينة لم توجد في تراب قبيلة من القبائل. كان لها قائد خاص تابع لإيالة فاس.
وحين رجوعه من صفرو إلى فاس سلك نفس الطريق التي كان قد مرَّ منها في الذهاب إليها، فلقي أثناءه عددا من المسافرين بدوابهم من حمير وجمال كانت محملة بالفواكه والأخشاب: منهم من كان قاصدا صفرو ومنهم من كان قاصدا الصحراء.
كما لاحظ أن النساء بصفرو لا يلثمن وجوههن.
من مكناس إلى قصبة بني ملال:
يقول دوفوكو إنه سافر يوم 27 غشت 1883 من مكناس إلى ثلاثاء زمور في قافلة كان من بين أفرادها خمسون تاجراً.
ويقول عن منطقة زمور أنها خصبة ومزدهرة، ونظراً لغناها وخصوبة أرضها فقد سميت بدكالة الغرب.
ـ سوق ثلاثاء زمور: (لعله الخميسات الحالية) (ص. 43):
سوق نشطة كان بها ما يزيد عن ثلاثين خيمة، والبضائع المعروضة بها هي تقريبا نفس البضائع التي عرضت في سوق ثلاثاء الحياينة، لكن نجد به أيضا أكواما من الفواكه، وخاصة العنب، وهذه الفاكهة تأتي من الدواوير المجاورة.
ـ أربعاء زمور ( ص. 43):
لم يعط عنه التفاصيل إذ أشار إلى إقامته به فقط.
الصناعة التقليدية: النسيج بمنطقة زمور (ص. 43-44):
يقول دوفوكو إنه توقف يوم 29 غشت دوار (لم يذكر اسمه) قريباً من أربعاء زمور، واصفا إياهُ أنه غني ويتكون من خيام كبيرة وجميلة، وعلى جنباته كانت رابطة بعض أحصنة الركوب، وبداخل هذا الدوار كانت تتراءى النساء وهن يشتغلن في نسيج التليس أو البرونس أو ترحالت (التي هي غطاء مزركش الألوان والرسوم)، أو يشتغلن في فتل الحصائر التي تطرز بعد ذلك بالصوف ذات الألوان الزاهية، فصناعة هذه الحصائر المطروزة وترحالت هي صناعة خاصة بقبائل زمور وزيان وبني مكيلد.
أولماس: (ص. 46):
دوار آيت عمر:
يقول عنه: أن هذا الدوار يشبه في كثير من الجوانب الدوار الذي توقف فيه عند زمور، يظهر أنه غني، خيامه جميلة وكبيرة، به خيول كثيرة. وإذا كان أهل زيان لا يشتغلون بالفلاحة، فإنهم كانوا يربون ماشية كثيرة: ماعز، وأغنام وأبقار كثيرة، ملاحظا أن الأبقار ربما لا توجد بهذه الكثرة إلا في قبيلتهم. وهذه الماشية هي موضوع تجارة هامة ومربحة، وهنا يوجد وكلاء لتجار مكناس يقومون بشراء الجلود والحيوانات التي تصدر إلى مدينة طنجة.
تادلة: (ص. 49):
يقول بأن قبائل تادلة التي تلي قبائل زيان هي قبائل رُحَّل، تعيش تحت الخيام، وهي غنية وتملك قطعانا كبيرة من الجمال والماشية وعدداً مهما من الخيول. وتقوم بالزراعة على ضفاف أم الربيع الخصبة.
قصر بني زمور (ص. 50-51)::
يقول عنه أنه على بعد ثلاث ساعات مشيا من بوجعد. يحيط به سور مربع الشكل، طابيته غير حسنة البناء، علوه 3 أمتار، أقيمت في وسطه ما يقرب من ثلاثين خيمة صغيرة وفقيرة. سكانه فقراء يشتغلون في تجارة الخشب الذي يقومون بقطعه من جبل حساية Heçaia، يبيعونه لأهل بوجعد الذين يأتون لاقتنائه منهم، السور الذي يتحصن داخله هذا القصر حديث العهد، حيث تمّ بناؤه سنتين قبل ذلك.
بوجعد: (ص. 55):
بالنسبة إليه بوجعد تقع وسط تموجات سهل صخري أبيض. تعاني من قلة الماء، الشيء الذي يفسر قلة الحدائق، فأهميتها ترجع أساسا إلى العامل الديني كزاوية، يقطنها حوالي 1700 نسمة منهم 200 يهودي. يقام بها سوق أسبوعي يوم الخميس، وهذا المكان الذي تقام فيه التجارة كل يوم، أقيمت به حجرات صغيرة منتظمة مبنية إما بالتراب أو الحجر عمقها متران وعلوها متر ونصف، وبها كان الصناع والتجار يعرضون بضائعهم في الصباح ويأخذونها معهم في المساء، ومنهم من يفضل أكواخا من الأغصان. ويوم الخميس الذي هو يوم السوق الأسبوعي: ترتاده جميع القبائل المجاورة، وتوجد بالحوانيت كل السلع الأوروبية التي تباع في فاس ومكناس، ويُستثنى منها البترول (زيت المصباح) والسكاكين وأقلام الرصاص. لكن هذه المواد توجد بكثرة عند صلحاء المدينة، لأنهم كانوا يستقدمونها مباشرة من الدار البيضاء. وهكذا فتجارة بوجعد كلها كانت قائمة مع هذا الميناء الذي عن طريقه كانت المدينة تتزود بالقماش والشاي، والسكر والأرز والعطور والتوابل والثياب الفاخرة. ومقابل ذلك، كانت بوجعد تصدر إليه الجلود والصوف والشمع. بينها وبين الدار البيضاء أربعة أيام من المشي. أما العلاقات بيها وبين مراكش غير موجودة نظرا لصعوبة الطرق.
من بين منتوجات بساتين المنطقة، نجد الرمان والتين والزيتون والعنب، ومن الخضراوات اليقطين (القرعة citrouille) والدلاح والفلفل والبطيخ.
قصبة تادلة (ص. 59):
بعدما أعطى دوفوكو لمحة تاريخية عن هذه القصبة وصفها كما كانت وقت مروره بها، وقال بأنها أكثر القصبات والحصون صونا في المغرب، لكن هذه القصبة غير آهلة، وخارجها يوجد حيان: أحدهما على الضفة اليمنى لواد أم الربيع منازله من التراب وبه يقطن اليهود، والأسر الميسورة الحال. أما الآخر فهو يوجد على الضفة اليسرى لنفس النهر، منازله على شكل خيام وأكواخ من أغصان، يقطنها الفقراء.
وبقصبة تادلة ما يقرب من 1200 أو 1400 نسمة منهم 100 أو 150 يهودي. وهذه المنطقة تتوفر على الملح الحجري الذي يستخرج قريبا من هنا في تراب بني موسى.
وقصبة تادلة لا تتوفر على حدائق ومن ثمة فليس بها أشجار ولا أية خضرة.
من قصبة تادلة إلى قصبة بني ملال (ص. 59-62):
قصبة بني ملال: (ص. 63):
تسمى كذلك قصبة بلكوش، وهي مدينة صغيرة يقطنها حوالي 3000 نسمة منهم 300 يهودي. بنيت في قدم الجبل على حاذور خفيف، تمتد عليه حدائق غناء، ويعلو المدينة جرف صخري من جهة الجنوب، تنهمر منه المياه التي تروي القصبة.
منازل بني ملال هي من التراب، ولها طابق واحد، كما هو الأمر بالنسبة لبوجعد، لا وجود لصومعة داخل المدينة، ولكن هناك واحدة تظهر عالية وسط البساتين بزاوية سيدي محمد بن القاسم. والبناية الوحيدة الملفتة للنظر، هي قصبة قديمة ذات أسوار عالية وسميكة قام السلطان م. سليمان بترميمها، ولكن الخراب تسرب إليها.
وفي وسط القصبة يوجد السوق وهو سوق يشبه سوق بوجعد، فنفس السلع الأوروبية التي تباع في بوجعد توجد هنا أيضا، هذه البضائع تأتي إما من الدار البيضاء أو من مراكش. وفي كل خمسة عشر يوما كانت تصل إلى بني ملال، قافلة تتكون من اثني عشر جملا، تقطع المسافة بين المدينتين في ظرف أربعة أيام. وعلى العكس من ذلك، فإن الطريق من بني ملال إلى الدار البيضاء طويلة وتمر عبر بوجعد.
ومدينة بني ملال تبدو نظيفة وغنية، أزقتها واسعة، منازلها جديدة وحسنة البناء، فازدهارها مصدره بساتينها المنتجة لمختلف الفواكه التي تسوّقها بعيداً. حدائق بني ملال كباقي الحدائق المنتظمة على قدم جبل الأطلس حدائق غنية. إن حدائق تاكزيرت وفشتالة وقصة بني ملال ودمنات، تضاهي في خصوبتها وغناها حدائق وبساتين الشاون وتازة وصفرو في الشمال. فالقرى الثلاثة الأولى تزود بفواكهها منطقة تادلة بما فيها بوجعد، وهذه الفواكه هي العنب والكرموس والرمان والخوخ والليمون إضافة إلى الزيتون، وهي معروفة بجودتها وكثرتها.
واويزغت: (ص. 69):
قرية توجد في قدم جبل بني ملال بجانب سهل صغير يخترقه واد العبيد.
جدول ماء يحمل نفس الاسم (أي واويزغت). تتكون من ثلاثة مجموعات سكنية متباعدة تجمع بينهما الحقول. واحدة منها زاوية يقطنها مرابطون يتقدمهم سيدي محمد ولد محمد، ووسط البساتين تتراءى أطلال قصبة قديمة هي من بناء مولاي إسماعيل. المنازل من التراب وهي ذات طبقة أرضية ذات سطوح، ووسط هذه المنازل بنيت قصبات عديدة (تيغرماتين) كما هو الشأن في البادية القريبة.
ومن أشجار هذه المنطقة الزيتون والخوخ والكرموس، وحدائقها تنتج الخضر مثل الفلفل والبصل واليقطين. سكانها يقدرون بـ800 أو ألف نسمة منهم 100 أو 150 يهودي. ورغم قلة عدد سكانها فإن لهذه القرية أهمية كبرى نظرا لسوقها النشيط والمقام يوم الجمعة، وهو سوق يقصده كثير من الناس. وهذه الأهمية ترجع أيضا لموقعها الذي يجعل منها إحدى بوابات الأطلس، وكذا ملتقى لعدد كبير من الروافد، فهناك ثلاثة منافذ تنفتح من الأطلس ما بين حوض أم الربيع وحوض درعة، أحدهما غربا يربط بين زاوية سيدي رحال وتلوات، والآخر في الوسط يتوجه من دمنات نحو هسكورة. أما الثالث فهو أمام واويزغت وينتهي إلى أوسيكيس. وهذا المسلك الأخير هو الذي كانت تمر منه القوافل الذاهبة من مراكش إلى أعالي دادس أو تودغة أو فركلة. وشرق هذا الممر لا توجد ممرات أخرى إلا قريبا من القصابي الشرفاء.
حد آيت بوزيد( ص. 71):
سوق نشيطة، لا يوجد بها أقل من 600 شخص، لكن البضائع المعروضة فيه غير متنوعة، تباع فيه الفواكه والخضراوات التي يأتي بها آيت بوزيد ويقتنيها آيت عطا. تباع فيه كذلك الماشية: أغنام وماعز وأبقار، ثمن بقرة واحدة ما بين 30 إلى 40 فرنكاً. وتعرض فيه أيضا الحبوب والجلود والصوف، كما يعرض فيه يهود واويزغت سلعهم مثل البلاغي والحلي والقماش والدجاج. إلى جانب هؤلاء التجار اليهود، هناك تجار مسلمون يبيعون الشاي والسكر وعود الثقاب.
ويلاحظ دوفوكو أن العمل المربح هنا هو “لعب الخيول «Le jeu des chevaux » ، فكل فارس من آيت بوزيد يكون ملزما بالحضور كل يوم أحد، وكل من تخلف عن ذلك يؤدي غرامة مقدارها 10 فرنكات. ولممارسة هذا اللعب يتكون المتبارون من عدة مجموعات تضم الواحدة من 10 أو 20 فرداً، وبالتتابع فإن كل مجموعة من هذه المجموعات تنهض مسرعة بخيولها وتطلق بنادقها بعد تعميرها، وبعد ذلك تقف وتزيل عنها الأقنعة لتحل محلها مجموعة أخرى، وبعد ذلك تقوم بتعمير بنادقها من جديد في انتظار أن يصل دورها.
ويزيد قائلا إن قبيلة آيت بوزيد مشهورة بغناها، وسكانها أظهروا حيويتهم ونشاطهم، بحيث يعترف لهم دوفوكو بمدى العناية الكبيرة التي يعطونها لفلاحتهم، وكذا اعتنائهم بالمسالك والطرقات في منطقة وعرة التضاريس كمنطقتهم. ويتجلى استغلالهم المكثف للأرض في كونهم لم يتركوا أي مكان من أرضهم إلا واستغلوه. وإذا كانت منازلهم من طبقة أرضية، فإنها حسنة البناء، وهي مبنية بالحجر غير المقطوع، وهي على شكل قصبات (تيغرماتين) كثيرة وكبيرة، وتدل على أن السكان هم سكان نشيطون، ومن سمات سكنهم التبعثر حيث تبنى المنازل وسط المزروعات منعزلة عن بعضها البعض، وهذه السمة توجد أيضا لدى قبيلة حاحا. (ص. 73).
آيت عتاب (ص: 74-75):
تراب هذه القبيلة يحده من الشمال آيت عياض وتادلة، ومن الشرق آيت بوزيد ومن الجنوب والغرب واد العبيد.
يقام بتراب آيت عتاب سوقان: أحدهما يعرف بحد آيت عتاب والثاني أربعاء إقدوسن، وجدير بالملاحظة أن دوفوكو لا يعطى عنهما تفاصيل أخرى، خاصة ما يُروج بهما من منتوجات، ولكن من السهل جدا إدراك ذلك مقارنة مع أسواق القبائل المجاورة التي كان قد ذكرها من قبل. وآيت عتاب يتوفرون على محاط زراعي عبارة عن بساتين تنتج كثيرا من الفاكهة.
أنتيفة (ص. 76):
جمعة انتيفة:
يقام بها سوق يوم الاثنين، وتتكون القرية من ثلاث مجموعات سكنية متباينة على جنبات الجدول الذي يخترقها. بساتينها عبارة عن غابة حقيقية للزيتون، سكانها يقدرون بـ 1500 نسمة بينهم 200 يهودي، وهذه البلدة تقوم بتجارة نشيطة مع كل من بزو ودمنات من جهة، ومع قبائل الجنوب من جهة ثانية، وغير بعيد عنها يوجد مقر سكنى قائد انتيفة.
دمنات (ص. 77-78):
شبهها دوفوكو بصفرو وقال بأنها بالنسبة لمراكش كانت تلعب نفس الدور الذي كانت تلعبه صفرو بالنسبة لمدينة فاس، أما النشاط التجاري لدمنات فكانت تفسره الوضعية الجغرافية لهذا المركز، في إطار تيارات التبادل التجاري القديم، كما يفسره الارتباط الوثيق بين الاقتصاد القروي وبين الأسواق الأسبوعية. (أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، ص: 284)، وكذا وقوعها بين سهل الحوز وجبال الأطلس الكبير الأوسط ووقوعها على طريق ممرات كانت هي الطريق العادية إلى وادي دادس وواد درعة وتدغة وتافيلالت، ووقوعها كذلك على مقربة من منتصف الطريق بين منطقتين تجاريتين كان بينهما اتصال محدود، هما: منطقة مراكش ومنطقة فاس.
دمنات هي السوق الرئيسية لقبائل اينولتان تطوانة (أحمد التوفيق: المجتمع المغربي…، ص: 287).
تجارة دمنات (ص. 78-77):
تتزود قبائل الأطلس والصحراء ودادس وتودغة من دمنات بالسلع الأوروبية والسلع المصنوعة في المدن المغربية كالملابس القطنية والسكر والشاي والعطور والحلي والأحذية، وتباع فيها كذلك الحبوب، ولكن بكمية قليلة، ومقابل ذلك يؤتى إليها بالجلود والصوف والتمر، وهذه التجارة هي التي كانت وراء الازدهار الذي كانت تنعم به دمنات على ذلك العهد.
وقد وقف الأستاذ أحمد التوفيق عند كل التفاصيل المتعلقة بكل أسواق دمنات، واستنتج أن دمنات كانت لها علاقات تجارية مع مجموعات ثلاث على الأقل من الأسواق الرئيسية كانت دوائرها تكون مناطق جذبها وإشعاعها في نفس الوقت وهي:
مجموعة أسواق السهل، وهي التي كان الأمين السلطاني بدمنات يقوم بتحصيل مستفادها (وهي أسواق السراغنة وتاملالت ونتيفة).
مجموعة أسواق الجبل:آيت محمد وآيت مساض وآيت بوكماز.
مجموعة أسواق تدغة والصحراء.
وقد لاحظ الأستاذ التوفيق أن أسواق الأحاد لا تتكرر «في الشمال إلا من الفرايطة شمال السراغنة، وفي الجنوب، بزاكورة، وعلى هذا المنوال كانت تنتظم مراكز المبادلات من المناطق القروية المغربية، بحيث يمكن تقدير إشعاع مركز ما في إحدى الاتجاهات بالمسافة التي تفصله عن مركز آخر تنعقد فيه سوق في نفس اليوم على أن هذه الوضعية لم تكن تنفي التبادل بين المناطق المتباعدة لأن التكامل في البضائع المتبادلة كان يؤدي إلى اتصال هذه المناطق المتنائية». (أحمد التوفيق، المجتمع المغربي…، ص. 288).
البضائع المتبادلة:
«كان نشاط التبادل في دمنات قائما على مواد كلية، يكونها إنتاج الفلاحين بإينولتان، من الزيت والعنب والجلود وعلى الملح المستخرج من تيزغت، وعلى إنتاج الصناع المحليين من أحذية وأوان فخارية وسكك للحرث، وعلى مواد جبلية هي الصوف والجلد واللوز والجوز، وعلى مواد كان يجلبها التجار المقيمون قي دمنات من المدن الأخرى أو من المراسي، وهي إما مواد مصنوعة في هذه المدن أو بضائع أوروبية كملابس القطن والسكر والشاي والعطور والحلي الخ… كما كان قائما على مواد السهل، وهي الحبوب والحيوانات، وعلى مواد صحراوية كالفاكهة من تمر وتين وزبيب وتفاح، وكالحناء والورد وعصفة الأتل (تاكاوت). وكان تجار تافيلالت وتودغة ودادس يأتون إلى دمنات بالفاكهة والجلود والصوف وتاكاوت، والسراغنة وأهل تادلا وتجار بني مسكين والشاوية يأتون إليها بالحبوب. وكان نتيفة يأتون بالبهائم واللوز. وفي دمنات كان يجد هؤلاء جميعا بضائع محلية وأوروبية مجلوبة. فأهل الصحراء وقبائل الأطلس يعودون بالزيوت والبضائع المجلوبة من الخارج، وبالحبوب. وأهل السهل يعودون بالزيوت والملح وسكك الحرث وفاكهة الصحراء، ولكن معظم المواد الصحراوية كانت تصنع في دمنات أو ترسل إلى مراكش» (أحمد التوفيق، المجتمع المغربي، ص: 288).
التجـــار:
«وهذا التشتت الذي كان يعني عدم وجود محتكرين قادرين على اتخاذ الوسائل لاحتجان البضاعة احتجانا كاملا من مصادرها، كان دليلا على نشاط بورجوازي ضعيف النمو، وإلى جانب ضعف الاحتكار، كان هناك ضعف تخصص، فتجار فاس وتجار الرباط وتجار سوس الذين كانوا يبيعون بضائع المراسي، وخاصة منها الملابس من كتان وحرير وحايك وجوخ كانوا لا يتورعون عن حوز الحناء أو الدباغ أو التين مقابل مبيعاتهم فيكدسونها في جانب من المتجر».
شهادة دوفوكو عن دمنات:
لما مر بها «شهد بآثار رخاء سابق “حيث لم يكن بداخل دمنات مكان فارغ وليس بها خراب». أما عن تجارتها فيقول: “كانت تأتي إليها قبائل الأطلس والصحراء ودادس وتدغة للتزود بالمنتوجات الأوروبية والبضائع المصنوعة في المدن المغربية مثل الملابس القطنية والسكر والشاي والعطور والحلي، كما كانت تطلب فيها الحبوب كذلك، ولكن بكميات قليلة. وكانت تأتي للمبادلة بالجلود والأصواف والتمور التي كان سكان دمنات يبعثون بها إلى مراكش». وقد أبرز دوفوكو التطور الذي حدث في هذه المبادلات حيث قال: «إن هذه التجارة التي ازدهرت في الماضي والتي جلبت الثراء للمدينة هي في تدهور منذ أربع سنوات أو خمس» غير أنه لم يشر عند ذكر أسباب هذا التدهور إلى أثر القحوط والوباء الذي شهدته المنطقة، ولا إلى عواقب أطماع قائد دمنات على قبائل الأطلس والصحراء، ولا إلى انجطاط تجارة السودان، بل رد ذلك كله إلى عامل وحيد يتلخص في الجشع الذي أبداه الأمين الذي أرسله السلطان إلى دمنات في تلك المدة، الشيء الذي انعكس سلبا على التجارة بسبب ما كان يفرض على التجار من إتاوات تعسفية هي من الغلو مما عجل بصدود القبائل المجاورة وقوافل الجنوب عن هذه السوق وتوجهها جماعات نحو مراكش التي تتزود منها حاليا.
ويرى الأستاذ التوفيق «أن هذا التحول للقوافل عن دمنات كان حدثا فاصلا بين عهد ازدهار وعهد أزمة» (أحمد التوفيق، المجتمع المغربي…، ص: 307).
تجارة كلاوة (ص. 81):
تجارة نشيطة تقوم أساسا على تبادل حبوب الشمال وتمور درعة، وهذه المبادلات كانت تتم بسوقي اثنين تلوات وخميس أنزال، الذي أحدثه الكلاوي لاجتذاب قوافل درعة ودادس وتودغة بعدما ابتعدت عن دمنات للأسباب التي ذكرناها.
وفرة الحليب والعسل بكثرة بالأطلس الكبير (ص. 93):
يشهد دوفوكو أن الحليب والعسل كانا يتوفران بكثرة في الأطلس الكبير الأوسط، وقد لاحظ كذلك أن هاتين المادتين كانتا تتوفران عند قدم الجبل، خاصة في تيكيرت الواقعة في تراب آيت زينب (على بعد أربعين كيلومتراً شمالي مدينة ورزازات الحالية). ولاحظ أيضا أنه بقدر ما يُبتعد عن هذه المنطقة، بقدر ما يصبح وجود هاتين المادتين صعبا. كما لاحظ أنه من الصعب جدا، إيجاد الصابون في ما وراء قبيلة أيت زينب، عكس ما هو عليه الأمر في عدد من القرى التي يُصنع بها خاصة من طرف اليهود. ولغسل الملابس، كان الناس يلجأون إلى استعمال بعض النباتات، مما يجعل غسلها ضعيفا.
تزناخت: (ص. 108-109):
قرية كبيرة توجد في موقع حزين، ففي شمالها تمتد فسيحة أراض صخرية يخترقها طريق تيكيرت، وتحدّها شرقا كتلة يقطعها صخر أسود لامع يحجب عنها الأفق، أما غربا فيتراءى جزء من السهل. وبجانبها يمر النهر الجاف الذي يحمل نفس الاسم، وهنا أشار دوفوكو إلى أنه أثناء مقامه بتزناخت فاض هذا النهر مدة أربع وعشرين ساعة، فعم الفرح هذه البلدة. وتفاءل الناس خيرا بموسم فلاحي جيد، ذلك أنه منذ أربعة أعوام جف الواد فنتجت عن ذلك مجاعة، وتمتد هذه القرية على طول الضفة اليمنى لنفس الواد. منازلها فهي من التراب المدكوك، وتسرب الخراب إلى كثير منها. وفي وسط من القرية يُوجد منزل الشيوخ، وهو منزل واسع وبسيط، ولا يذكّر في شيء بالبنايات الجميلة لوادي إونيل (Iounil) وإيغيلس (Irels). وقد اختفت هذه الأخيرة تدريجيا بابتعادنا عن واد درعة. مظهر تازناخت حزين حيث لا نرى إلا منازلا مهدمة النصف وأجزاء من الجدران منهارة، فالأطلال تشكل على الأقل ثلثي المساحة، هذا عمل المجاعة الناتجة عن أربع سنوات من الجفاف، فقبل أربع سنوات، كانت تعيش بهذه المدينة 300 عائلة نصفها إسلامية ونصفها الآخر يهودية. التجارة الكبرى كانت سببا في ثرائها، وسوقها الذي يقام كل يوم خميس مشهور في الصحراء كلها، وكانت تؤمه مختلف القبائل المجاورة. كان الناس يأتون إليه جماعات من سوس ودرعة وتلوات واداوابلال، لكن منذ أربع سنوات نضب الماء وفقدت المحاصيل واستنفذت الموارد، فاضطر السكان إلى الهجرة، وفقدت بسبب ذلك أكثر من نصف سكانها ولم يعد يقطن بها اليوم إلا ثمانون عائلة مسلمة وخمسة وخمسون عائلة يهودية. وهكذا، عم الانهيار كل شيء فاختفت التجارة، فالسوق الذي كان قبل ذلك مزدهراً أصبح مهجوراً. إن فقدان الحبوب لدى القبائل المجاورة وخاصة لدى قبائل زناكة (إزناكن)، كان سببا في هذه الكارثة. وتازناخت لم يتأت لها في أي وقت من الأوقات، أن يكون لها اكتفاء ذاتي، نظراً لطبيعة أرضها الصخرية، إضافة إلى قلة الماء، وتازناخت تزودها عيون بماء جيد تكفي للحاجيات المنزلية، ولكنها لم تكن بالكثرة التي يمكنها أن تسقى الأراضي الزراعية. وهذا ما يفسر قلة المزروعات وضعفها بالمنطقة، وهي مزروعات ضعيفة تمتد على طول النهر. ومن بين الأشجار التي تنبت بهذه المنطقة نجد أشجار التين والسفرجل. أما مناخها فحار صيفا ومعتدل شتاءً، وأحيانا يسقط فيها الثلج وهو ثلج سريع الذوبان.
وتازناخت لها سوق مشهورة. فالموقع الرئيسي لهذا السوق ما بين سوس ودرعة وتلوات، أعطاه أهمية كبيرة، فكل يوم خميس يأتي أهل سوس بزيتهم إليه، وأهل درعة بتمورهم والكلاويون بالحبوب. وهنا يقام التبادل: فالتمور يُذهب بها إلى الغرب والشمال. أما الزيوت والحبوب فتتخذ وجهة الجنوب والشرق. وسكان تزناخت لهم علاقات متواصلة مع المغرب Maroc الذي ربما يقصد بها مدينة مراكش، فالقوافل تقصده محملة بالجلود والكعك والتمور، وأثناء رجوعها تحمل معها ملابس القطن والسكر والشاي وعود الثقاب. وهذه السلع تدخر وتعرض يوم السوق، وازدهرت بها صناعة أخنيف. فتزناخت هي بلدته، فنسج أخنيف وطرزه يشتغل به أغلب السكان. ورغم هذا النشاط الصناعي، فإن تجارة تازناخت تراجعت. وإذا كانت القبائل المجاورة تقصدها لاقتناء المواد الأوروبية، واستمرت زناكة في القدوم إليها بأصوافها وحبوبها، فإن القوافل الكثيرة التي كانت تأتي إليها من سوس ومزكيطة (درعة) وكلاوة أصبحت اليوم قليلة جداً. كما أنه لم يعد يأتي إليها أحد من واحات الجنوب. ونتج عن ذلك كله قلة الأجانب بسوق تازناخت حيث في بعض الأحيان لا يتجاوز عددهم الستين. أما الزيت فأصبح يقل في كثير من الأحيان مما كان يجعل الناس مضطرين إلى الإضاءة بصعوبة، بشيء من الشحم أو برزمة من الحطب اليابس. فالمنطقة فقيرة اليوم: الخيول والبغال قليلة، وتعتبر من الكماليات، كذلك الأبقار قليلة ولا وجود للجمال، وأعداد الحمير والأغنام والماعز هي أيضا قليلة.
ـ التغذية بالشعير:
مما أثار انتباه دوفوكو هنا، هو أهمية الشعير في التغذية، حيث يقول أن الخبز والكسكس اليومي كانا يُصنعان منها، كما أن الزميطة تشكل الزاد الأساسي للمسافر. ويضيف قائلا أن التغذية بالقمح تتوقف هنا ولا توجد هذه المادة إلا عند الميسورين كالشيوخ والأعيان.
استهلاك الشاي والقهوة بالمغرب (ص. 125-126):
تحدث دوفوكو عن استهلاك مادتي الشاي والقهوة بالمغرب ملاحظا في هذا الصدد أن الشاي هو المشروب المفضل في المغرب. وهذا الشاي كان يستورد من إنكلترا وثمنه خمس فرنكات للكيلوغرام. وكان هذا الثمن يزداد ارتفاعا كلما ابتعدنا عن الموانئ والحواضر الكبرى إلى درجة أن ثمنه كان يصل في تيسينت إلى ما بين 20 و30 فرنكا. كما وصف طريقة تحضيره آنذاك وهي لا تختلف عن الطريقة التي لايزال يحضر بها في يومنا هذا. وزاد قائلا أنه كان يحضر بكمية قليلة من الشاي مع ماء كثير يضاف إليهما النعناع أو نباتات أخرى عطرة مع كمية مهمة من السكر حيث يصبح حلواً جدا. أما القهوة فتستهلك قليلا في مراكش وفاس وفي الموانئ، وخارج هذه الأماكن فهي غير معروفة. وعلى العكس من ذلك فاستهلاك الشاي منتشر في كل أرجاء المملكة. ويعتبر الشاي في الصحراء مادة غالية الثمن لا يتلذذ بطعمها إلا القياد والشيوخ والمرابطون واليهود.
تيسِّينْتْ (ص. 126):
هو مركز تجارة مهمة. له علاقات تجارية مع مراكش والصويرة وسوس ويصدّر نحو هذه الأماكن التمور والجلود والصمغ. وكان يجلب من سوس الزيوت، ومن مراكش والصويرة البضائع الأوروبية، وتيسينت هي بمثابة مستودع كبير لهذه المواد. ويعتبر سوق أكادير أهم سوق بها، وهو سوق تؤمه القبائل المجاورة، وكذا الرحل. وكان يتزود منه كذلك إداأوبلال وأولاد يحيى الذين يقتنون منه الخنت (نوع من القماش) والشاي والسكر ومواد أخرى خاصة الإبر. ويلاحظ دوفوكو أن السكان الرئيسيين بهذا القصر كانوا يتعاطون التجارة التي اغتنوا بفضلها مشيراً إلى أن ثروة الأغنياء منهم يمكن أن تصل إلى 8000 فرنك (بما فيها أراضي النخيل التي تباع قطعة منها بـ عشر فرنكات). أما الباقي من الرأسمال فيُستثمر في الأعمال التجارية، ويقوم هؤلاء التجار أنفسهم بإبرام الصفقات المهمة. أما التقسيط وتصريف البضائع فكان يقوم بهما لصالحهم تجار يهود يكونون رهن إشارتهم. وهي قرية لا يوجد بها الملاح، وهؤلاء اليهود هم إما من طاطا أو من أقا أو من إزناكن. ويتعاطى واحد أو اثنان منهم لصناعة الحلي التي هي من اختصاص اليهود بالمغرب وخاصة في جنوب الأطلس.
ويُباع اللحم بالتقسيط في سوق هذه القرية كما يُباع فيه كذلك الخبز.
وتيسينت كانت لها في الماضي علاقات تجارية مع السودان حيث كانت تأتي من هناك الجلود والأثواب والشمع الأصفر، وذهب تومبوكتو بكثرة، لكنه في الوقت الراهن لم يبق أي شيء من هذه التجارة. ومع ذلك فمن حين لآخر يمكن مشاهدة بضاعة قادمة من هناك. وتعيش تجارة كل من طاطا وأقا مع السودان نفس الوضعية التي تعيشها تجارة تيسينت مع السودان. فقبل أن تؤسس تيندوف كانت قوافل السودان تصل إلى هذه الواحات. ومنذ ثلاثين سنة خلت، توقفت تلك القوافل. ومن هناك كانت سلع السودان تأخذ طريقها نحو الصويرة عبر الساحل واشتوكة، إلا أن بضائع السودان كانت متوفرة بتيزونين (Tizounine).
وهذه الحيوية التجارية التي تتميز بها قرية أكادير جعلت منها مركز استقطاب للأجانب (عن المنطقة) وخاصة إداأوبلال الذين يقصدونها لإبرام الصفقات التجارية.
أقًّا (ص. 150 – 152):
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فتجارة أقا كانت تعيش نفس الوضعية التي كانت تعيشها تجارة طاطا، ففي السابق، كانت مقصدا للقوافل الصحراوية التي توقفت عن الوصول إليها منذ تأسيس تيندوف، وقد اشتهرت أقا بصياغة الحلي وخاصة الذهبية منها، وهي صناعة توقفت هي الأخرىنتيجة عدم وصول ذهب السودان إليها. وهكذا ذبل هذا النشاط كله ولم يعد لآقا إشعاعها المعروف فتضررت من ذلك كثيرا مثلما تضررت تيسينت وطاطا التي أصبحت كلها تعتمد على منتوجاتها المحلية (التمور خاصة).
قرية آيت سعيد (ص. 182):
يقع هذا القصر على أسيف آيت مزال. وحسب دوفوكو هو قصر له طابع خاص، منازله عالية (ذات طوابق) وذات سطوح لها شرفات، وهي بمثابة حصون صغيرة. كلها مصبوغة ولا يوجد أجمل منها في المدن. وهذه المنازل هي منازل عائلة آيت سعيد الغنية، وهي أسرة كبيرة العدد: أفرادها يراقبون التجارة القائمة بين الصويرة والساحل وآقا وتيزونين وتيندوف. فمن الصويرة كانوا يقومون بتصريف البضائع الأوروبية نحو هذه المناطق، ومن هناك كانوا يستقدمون التمور واللوز ومنتوجات السودان التي كانوا يشترونها من الساحل وتيندوف، بعض أفراد أسرة آيت سعيد يقيم هنا والبعض الآخر يعيش في الصويرة (موكادور).
ـ موكادور (الصويرة، ص. 188):
إذا كان اسم موكادور يكتب على الخرائط بحروف غليظة، فأن ميناءها ليس بالأهمية التي نتصورها فالذي ينتظر أن يجد أن هناك علاقات مستمرة مع هذه المدينة وأوروبا سيصاب بخيبة أمل، ففي الشتاء خاصة تكون وسائل الاتصال قليلة وغير منتظمة. وللتأكيد على هذه الوضعية، يشير إلى أنه لم يتلق الجواب عن رسائل كان قد بعثها إلى باريس غداة وصوله إلى هذه المدينة إلا بعد مرور خمسة وأربعين يوماً. ومرد ذلك ـ يرى دوفوكو ـ أنه راجع إلى تراجع تجارة موكادور (مع أوروبا). فهذا الميناء لم تعد له علاقات تجارية إلا مع الشياظمة، وحاحة واشتوكة وإيلالن والساحل وتيندوف وعبرها مع تيمبوكتو. وهو ميناء يحتكر النصيب الأكبر من تجارة السودان وتجارة تجكانت، وهذا الامتياز هو الذي تبقى لموكادور.
أما بالنسبة لحوض سوس والصحراء والجزء الواقع بين واد آقا وواد زيز، فإن هذه المناطق تقتني مشترياتها من مدينة مراكش. وهذه العاصمة كانت تأتيها البضائع من الجديدة (مازكان). ومدينة مراكش هي أكبر مركز تجاري بالمغرب، ففاس تقوم بتزويد واد زيز والمنطقة الواقعة شرق هذا الواد، أما الصويرة فتزود الساحل والجزء الصغير من واد درعة الواقع غرب واد آقا. أما مراكش فهي تزود حوض سوس كله وحوض درعة إضافة إلى المناطق الواقعة على الروافد اليمنى لواد زيز مثل تودغة وفركلة.
أولاد سراير (قبيلة هوارة، ص. 191):
أثناء مقامه بهذه القبيلة يوم 22 مارس 1884 لاحظ دوفوكو أنها منطقة تشهد حركة تجارية كبرى بدليل كثرة الأسواق وعددها ثمانية وهي: أربعاء حمريين، وخميس اولاد دوحو، وجمعة أمزو، وسبت القفيفات، وحد منيزيلة، واثنين اولاد تايمة، وثلاثاء حفاية وسبت الكردان.
سوق الخميس بمزكيطة (إيمزكيطن، ص. 211):
لعله سوف الخميس بأكدز بأعالي واد درعة، وهذا السوق لايزال يقام في نفس اليوم إلى وقتنا هذا. وحسب دوفوكو فهذا السوق كان يتزود منه أفراد قبيلة آيت سدرات المستقرين بعالية نفس الواد. ورغم أنه لم يتحدث عن نوعية البضائع المتداولة فيه فمن السهل إدراك ذلك: تمور وحبوب وزيت وقماش…الخ.
سوق إمزوغ قريبا من تيليت (بدادس، ص. 216):
يقع قصر إمزوغ على الضفة اليمنى لواد دادس الأوسط بالقرب من قصر تيليت الذي كان يشكل أكبر قصور اليهود بواد دادس. أما السوق الذي يشير إليه دوفوكو فلم يعد له وجود الآن بقصر إمْزُوغ. وجدير بالملاحظة أن دوفوكو لم يعط عن هذا السوق أية تفاصيل أخرى. لكن يبدو أنه بالنظر إلى موقعه وسط واد دادس، فإنه كان أهم سوق بهذه المنطقة.
سوق الإثنين بتدغة (ص: 224):
لايزال هذا السوق الأسبوعي يقام بتدغة يوم الاثنين. وقدكانت ترتاده إضافة إلى قبائل المنطقة (أهل تودغة وآيت عطا) قبائل فركلة (آيت مرغاد).
نقل البضائع بين تافيلالت وفاس (ص. 232):
يقول دوفوكو إن نقل البضائع بين تافيلالت وفاس، هي عملية يقوم بها مطغريون امتهنوا هذه المهنة، ويزيد قائلا بأنه التقى مع هؤلاء المطغريين بتعلالين، ورافقوه من هناك إلى القصابي. وكان مما لفت انتباهه أن هذا الطريق تميز بكثرة المسافرين عبره، ففي نفس اليوم التقى بثمان قوافل من التجار تتكون كل واحدة منها من خمسين إلى ثمانين دابة نقل، أغلبها حمير وجمال.
وبعد حديثه عن القصابي الشرفاء، تحدث عن ملاقاته أثناء الطريق، بثلاث قوافل تشكل كلها ما مجموعه 150 دابة نقل.
ميسور (ص. 240):
واحة فيحاء تتميز بكثرة أشجار الفاكهة وشجر الزيتون، وميسور تنتج زيتا ذا جودة عالية، ولميسور علاقات تجارية مع مدينة فاس، بحيث تصدر نحو هذه المدينة الفواكه، وخاصة فاكهة التفاح.
دبدو (ص. 250):
أشار دوفوكو إلى أهمية نسبة السكان اليهود بهذه البلدة فقال بأنهم يشكلون ثلاثة أرباعها، فقدر سكانها بحوالي 2000 نسمة من بينهم 1500 يهودي، ويضيف قائلا: أنها البلدة الوحيدة في المغرب التي تجاوز عدد سكانها اليهود، عدد المسلمين.
ودبدو هو المركز الأول الذي كانت له تجارة منتظمة مع الجزائر وخاصة مع مدينة تلمسان، جيئة وذهابا. فالتجار اليهود يقتنون بدبدو السلع القادمة من المدن المغربية الأخرى ويقومون بتخزينها لديهم، في انتظار تصريفها شيئا فشيئا، بعين المكان، أو في الأسواق المجاورة. ولدبدو كذلك علاقات تجارية مع فاس ومليلية، لكن علاقاتها التجارية مع الجزائر تظل أكثر أهمية، كما هو الحال بالنسبة لقصبة العيون ووجدة.
من جملة الأسواق التي ذكرها دوفوكو بالمغرب الشرقي سوق اثنين زا (أوصاع) الذي كان يقام بدار الشاوي، لكنه لم يعط عنه أية تفاصيل أخرى. ويبدو أنه أقل أهمية من سوق مدينة دبدو. وإلى جانب هذا، تحدث دوفوكو أيضا عن سوق اثنين كرارمة مشيراً إلى أنه سوق دائم الحركة، وأنه بسبب فيضان واد ملوية في ذلك الوقت لم يتمكن سكان الضفة اليسرى لنفس الواد من العبور والقدوم إلى السوق، وهذا ما يفسر قلة الناس في السوق أثناء مروره.
قصبة العيون بالمغرب الشرقي (ص. 255):
تجارتها:
تجارة قصبة العيون ذات أهمية، الحوانيت توجد داخل السور وهي حوانيت مملوءة بالسلع، وخارج أسوارها يقام كل أسبوع سوق ثلاثاء سيدي ملوك الذي ترتاده بكثرة القبائل المجاورة سواء منها قبائل الجبل أو قبائل السهل، ومقابل الأصواف والتلاليس والزرابي والجلود التي تأتي بها نفس القبائل إلى هذه السوق، تقتني منه البضائع المجلوبة من الجزائر وخصوصا الملابس القطنية، وتزدهر أعمال صغار تجار القصبة خلال السنوات التي يكون فيها المحصول الزراعي جيدا. ومن البضائع التي كانوا يبيعونها للقبائل المجاورة وللجنود (الذين كانوا يحرسون القصبة)، القهوة بكميات مهمة، وماء الحياة، والنبيذ، والسكر، والشاي، وملابس القطن، والخزف، والزجاج، والشمع، والأحذية، والورق الخ…
الاستنتاجات:
من شهادات شارل دوفوكو الواردة في هذا العرض حول الاقتصاد المغربي أثناء عبوره للمجال المغربي يمكن استخلاص ما يلي:
ـ حيوية الأسواق التجارية بالمغرب الحضرية منها والقروية سنة 1883-1884، وهذه الحيوية يدل عليها إقبال الناس على تلك الأسواق، إضافة إلى وفرة المنتوجات المتنوعة بها فلاحية وصناعية. ووفرة المنتوج الفلاحي هذه، تدل دلالة واضحة على أن نفس السنة كانت سنة مطيرة بالمغرب، أسفر عنها محصول زراعي جيد. وإجمالا، فهذا النشاط الاقتصادي الحيوي ساهم فيه العنصر البشري من فلاحين، وتجار، وصناع على اختلاف مستوياتهم، دون إغفال مختلف الإصلاحات التي قام بها السلطان مولاي الحسن في الميدان الاقتصادي، والتي يبدو أنها أعطت أكلها. ورغما عن ذلك كله، فتظل هذه الحيوية نسبية بالنظر إلى آثار الجفاف التي لاتزال تشكو منها بعض المناطق وقتئذ (حالة تازناخت مثلا).
ـ انتشار البضائع الأوربية من أقمشة وغيرها في البوادي المغربية دانيها وقاصيها. كما يلاحظ بروز ظاهرة الاحتكار في الاقتصاد المغربي من طرف بعض الفئات (اليهود بدبدو مثلا) وبعض الأسر (أسرة آيت سعيد بواد آيت مزال التي تراقب تجارة الصويرة والصحراء).
تنامي استهلاك القهوة والشاي. إلا أن هذا الأخير كان لحظتئذ إذ المشروب المفضل لدى المغاربة بشكل عام وخصوصا لدى القرويين منهم الذين أخذت تترسخ لديهم طريقة تحضيره. وقد أكد شارل دفوكو على ذلك، وتحديدا لدى سكان الجنوب الصحراوي المغربي.
ـ خريطة المغرب التجارية التي تبدو معالمها واضحة وقتئذ وتتوزع على الشكل الآتي:
مدينة فاس، قطب تجارة النصف الشمالي من المغرب والأطلس المتوسط، وجزءاً من جنوب شرق المغرب (واد زيز)، ويشمل ميناء مدينة طنجة منفذها البحري الذي منه كانت تتعامل مع العالم المتوسطي. وكان أهل مدغرة متخصصين في نقل البضائع بين فاس وتافيلالت بشكل مهني بالمقابل.
المغرب الشرقي الذي تحتكر مراكزه الرئيسية (مدينة وجدة، ودبدو وقصبة العيون الشرقية) التجارة مع الجزائر ومع مدينة مليلية المغربية السليبة.
أما وسط المغرب فيظهر فيه تنامي أهمية ميناء الدار البيضاء الذي منه كانت تنفذ البضائع الأوروبية إلى هذه المناطق وغيرها.
فيما يخص تجارة الجنوب المغربي فتتقاسمها إذ ذاك مدينتا مراكش والصويرة (موكادور)، لكن ـ حسب دوفوكو ـ فتجارة مدينة مراكش آنذاك كانت أكثر أهمية في المغرب كله. وكانت تتعامل مع منطقة سوس ومناطق الأطلس الكبير ووادي درعة ودادس وتودغة وفركلة. وكان ميناء الجديدة (مازكان) الميناء الذي بواسطته كانت مدينة مراكش تتعامل مع الأوروبيين. وإذا تراجعت أهمية تجارة ميناء الصويرة مع أوروبا لصالح المينائين السابقين، فإنه ظل يحتكر التجارة الصحراوية ومن ثمة التجارة مع السودان (تومبوكتو). وهكذا، وبواسطة هذه المراقبة ظل المغرب يلعب دور الوساطة ـ وإن بشكل مختلف ـ في التجارة بين أوروبا وإفريقيا الغربية (السودان الغربي) وهو دور مافتئ يلعبه في العصر الوسيط عبر بوابات الشمال (سبتة، وتابحريت، ونكور، والمزمة، وطنجة…إلخ).