وجهات نظر

موريتانيا وحياد الصحراء….. موقف تكتيكي أم عقيدة استراتيجية؟

بقلم: رضوان الغزاوي – باحث في السياسة الدولية والدبلوماسية والرقمنة

 

في سياق التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يعرفها ملف الصحراء المغربية، ومع تزايد الدول الداعمة لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب، يبرز الموقف الموريتاني الراهن كحالة استثنائية يستحق التوقف والتحليل. فرغم أن دولا مؤثرة مثل الولايات المتحدة، فرنسا، إسبانيا، وأخيرا بريطانيا، أعلنت بشكل مباشر أو ضمني دعمها للطرح المغربي، فإن موريتانيا لا تزال متمسكة بموقف “الحياد الإيجابي”.

فهل هذا الحياد نابع من حسابات ظرفية؟ أم أنه جزء من عقيدة سياسية راسخة تشكلت عبر تجارب تاريخية مؤلمة ؟ وما هي حدود هذا الحياد ؟ وهل من الممكن أن يتغير في ضوء التوازنات الجديدة التي باتت تفرض نفسها على خارطة النزاع ؟

من اجل فهم هدا الحياد لا بد لنا من العودة الى الورائ قليلا . تاريخيا لم تكن موريتانيا دولة محايدة في ملف الصحراء. فبموجب اتفاق مدريد الثلاثي سنة 1975، حيث اقتسمت مع المغرب الإقليم الصحراوي، لتسيطر على منطقة وادي الذهب . لكنها سرعان ما اصطدمت بحقيقة مرة وهي ان الوجود العسكري في الصحراء لا يعني الهيمنة والسيطرة على المنطقة اد لم تكن على دراية بما يحدث في رمال الصحراء المتحرك، بل قد يتحول إلى عبء أمني وسياسي ثقيل.

حيث دخلت نواكشوط في مواجهة مباشرة مع جبهة البوليساريو، بدعم مباشر من الجزائر، التي صبت الزيت على النار واشعلت المنطقة بحرب دامية ، وهو ما استنزف القدرات المحدودة للجيش الموريتاني، وخلق انقسامات داخلية عميقة. وفي ظل الضغوط الداخلية والانقلابات، أعلنت موريتانيا سنة 1979 انسحابها الكامل من الإقليم واعترافها بالجبهة الانفصالية، فيما عرف آنذاك بـ”الصدمة الاستراتيجية” داخل المجتمع الموريتاني ، هدا الانسحاب كان بمثابة صدمة للإسبان والفرنسيين الذي لا طالب آمنوا بفكرة فرق تسود .

 

هذه التجربة المرة رسخت لدى صانع القرار الموريتاني قناعة مفادها أن أي تورط مباشر في هذا الملف يمثل مخاطرة تتجاوز قدرات الدولة، وهو ما جعل من الحياد عقيدة دفاعية ودبلوماسية في آن واحد. الحياد الموريتاني لا يمكن قراءته فقط من زاوية النأي بالنفس، بل ينبغي فهمه كاستراتيجية متوازنة لتدبير العلاقات الإقليمية، خاصة مع الجارتين الثقيلتين المغرب والجزائر. فالمغرب يعتبر شريكا اقتصاديًا مهما، لا سيما عبر معبر الكركرات الذي يعد شريانا أساسيًا للتجارة بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء، هذا بالإضافة الى الربط البحري خاصتا و ان المغرب لديه عدة مبادرات كالمبادرة الأطلسية مثلا . وهو ما يجعل أي توتر مع الرباط تهديدا مباشرا للأنشطة التجارية الحيوية لموريتانيا.

الجزائر، في المقابل، تمثل داعما سياسيًا واقتصاديًا، خاصة في ملف الطاقة والمساعدات التنموية. كما أن لها حضورا قويًا داخل الاتحاد الإفريقي بفعل الثروات البترولية والغازية التي تعتبرها الجزائر اكبر ورقة رابحة .ولذلك، فإن الحياد هنا ليس موقفا سلبيًا، بل هو وسيلة براغماتية لضمان استقرار التوازن في علاقات نواكشوط مع الجارتين، وتجنب التحول إلى ساحة صراع بالوكالة بين محور الرباط-باريس-واشنطن ومحور الجزائر-طهران-بعض تيارات الساحل.

لهدا يمكن تحليل الموقف الموريتاني من الصحراء دون التوقف عند الداخل السياسي والاجتماعي. فموريتانيا تعد دولة ذات نسيج قبلي معقد، حيث تنتشر قبائل كبرى لها امتدادات داخل الأقاليم الصحراوية المغربية، كقبائل الركيبات والبويهات. أي موقف رسمي داعم لأحد أطراف النزاع قد يحدث خلخلة في هذا التوازن الداخلي، ويعيد فتح جراح التاريخ، خاصة أن بعض النخب في الشمال الموريتاني لا تزال تحتفظ بعلاقات رمزية أو حتى سياسية مع البوليساريو. كما أن الخطاب السياسي الموريتاني ما يزال حذرا من “الاحتكاك الهوياتي” الذي قد ينتج عن انحياز معلن لطرف دون آخر. وعليه، فإن الحياد هنا لا يخدم فقط العلاقات الخارجية، بل يعتبر صمام أمان داخلي يحمي التماسك الوطني من الانقسامات الإثنية والقبلية التي قد تتغذى على الاصطفافات الإقليمية.

التحولات الدولية الداعمة لمغربية الصحراء، والتي بلغت ذروتها باعتراف الولايات المتحدة بمغربية الإقليم سنة 2020، ثم الدعم الأوروبي المتنامي، لم تغير جوهريا الموقف الموريتاني. ذلك أن نواكشوط تنظر إلى النزاع من زاوية مصلحية، حيث لا تربط موقفها بالاتجاهات الجيوسياسية الكبرى، بل بميزان الربح والخسارة المباشرين. كما أن موقف الأمم المتحدة لا يزال محايدا، ويؤكد على ضرورة التوصل إلى حل سياسي متوافق عليه، مما يمنح موريتانيا مبررا للاستمرار في موقفها غير المنحاز، تحت مظلة “الشرعية الدولية”.

 

وبهذا المعنى، فإن الحياد الموريتاني هو قراءة دقيقة لعدم الحسم النهائي في الملف، ورهان على استمرار الغموض الاستراتيجي الذي يسمح لنواكشوط بالمناورة دون الالتزام. رغم هذا الحذر، تشير بعض المؤشرات إلى وجود تقارب غير معلن بين الرباط ونواكشوط وتمثل ذلك في زيارات رسمية متبادلة و لقاءات رفيعة المستوى بين البلدين، هذا بالإضافة الى تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي في إطار مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل. كدلك إطلاق مشاريع لوجستية واقتصادية مشتركة، خصوصا في مجال الصيد البحري والموانئ.ورغم ذلك فإن هذه التطورات لا تُترجم بعد إلى تحول سياسي جذري، إلا أنها تشير إلى أن موريتانيا تتجه تدريجيا نحو دعم “واقعي” للطرح المغربي، دون التخلي الرسمي عن الحياد، في ما يمكن تسميته بـ”الحياد الانخراطي”.

 

لكن السؤال الدي يحيرني هو ” هل الحياد نهاية الموقف أم بدايته؟ ”

لان الحياد الموريتاني ليس دليلا على الضعف أو التردد، بل هو نتاج لتراكم تاريخي، وقراءة دقيقة لموازين القوى، وتقدير للمصالح الوطنية في بيئة إقليمية شديدة التعقيد. لكن هذا الحياد قد لا يستمر إلى الأبد. فإذا اتضح أن المجتمع الدولي يتجه فعلا إلى تبني حل نهائي قائم على الحكم الذاتي، وإذا نجح المغرب في تعزيز شراكته مع موريتانيا على المستويات الاقتصادية والأمنية والثقافية، فقد يكون من مصلحة نواكشوط أن تتحول إلى شريك داعم للمبادرة المغربية، لا فقط من باب التضامن، بل انطلاقا من منطق الربح الاستراتيجي المشترك.

 

وفي انتظار ذلك، اعتقد انه سيظل الحياد الموريتاني أحد أعمدة التوازن في نزاع لم يحسم بعد، لكنه يزداد اقترابا من نهايته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى