مسيرة وإصرار

في بلادٍ تُختزل فيها السياسة أحيانًا إلى كراسي وألقاب، ويُصنع فيها الزعماء على مهل الإعلانات الانتخابية، تبرز شخصيات نادرة لا تُحكى فقط بإنجازاتها، بل بصلابتها التي ترفض أن تُطوى تحت ضغط الزمن أو تُنسى وسط زخم المصالح.
حليمة عسالي ليست مجرد اسم ضمن قوائم الحزب أو حديث المجالس السياسية. هي امرأة من طينة مختلفة، ولدت في 25 أبريل 1953 في قرية صغيرة قرب منابع أم الربيع، في قلب الأطلس المتوسط، حيث لا مكان للضعف، وحيث يُصقل الإنسان على نار التحديات.
في بيئة ينتمي فيها الأب لرتبة “قائد” ذلك الرجل الذي يجمع بين السلطة والنضال، ويرسم السياسة كقضية حياة ومن زوج برلماني مؤسس لحزب الحركة الشعبية، لم يكن الطريق ممهدًا ولا موشورًا بالزهور.
لكن حليمة لم تستسلم لتلك الأدوار المرسومة مسبقًا، ولم تكن ورقة تمرير أو واجهة نسائية، بل كانت امرأة تدرك جيدًا أن السياسة ليست لعبة تقمص أدوار، بل ميدان اختبار للقيم والمبادئ.
تقول الحقيقة: لم تكن تبحث عن “المجد” أو “الكراسي” بل عن أثر. عن كلمة صادقة تُقال وسط صخب الذئاب التي تفترس الضعفاء. لم تُجالس المجاملة، بل جالست الفكرة، تلك التي تنبع من الداخل قبل أن تُعلن على المنابر.
في حزب السنبلة، الذي كثيرًا ما تراجع أو تخلى عن مبادئه، كانت هي النفس الحقيقي، تُحرك حين يلف الصمت القاعات، وتنتفض حين يخمد الحماس.
نالت المقعد البرلماني مرتين وتنازلت عن اللائحة نزولا للميدان ، إصرارًا منها على أن الكرامة لا تُشترى، وأن السياسة ليست مجرد مقعد يُملأ أو يُفرغ، بل مواقف تُصنع ولا تُباع. وهذا وحده يجعلها خارجة عن المألوف، خارج لعبة المنح والطلبات السياسية.
هي صورة حية لامرأة من الأطلس، ذات ملامح تحمل غموض الجبل وصلابته، تعرف متى تصمت كصخرة لا تتكسر، ومتى تفرقع صمتًا لا يُطاق. لم تراهن على الإعلام أو على صيحات وسائل التواصل، بل على الميدان والقرى التي تمشي فيها، وعلى المقاعد الخشبية الباردة حيث تجلس لساعات تسمع هموم النساء والشباب، تعيد صوغها في سياسات وأفكار.
في زمن كثرت فيه الوجوه المبتسمة التي تبيع الوعود، تظل حليمة العسالي تذكيرًا حقيقيًا بأن السياسة قد تكون نضالًا يوميًا مريرًا، لا فخًا للثراء ولا مظلة للحماية.
إنها امرأة ناضلت في زمن كانت فيه كلمة المرأة قليلة، واختيارها السياسي كان محدودًا، لكنها أثبتت أن المرأة قد تكون رأس الحربة حين تختار ألا تخضع، وأنها قد تصنع الفرق حين تتحول من ضحية إلى فاعل.
مسيرتها ليست فقط في ذاكرة حزبها أو مقاعد البرلمان، بل في وجدان من عرفوا معنى الإصرار، وعرفوا كيف تحافظ على صمودها وسط الريح العاتية.
في بلاد تبحث عن رموز وملهمين، تبقى حليمة عسالي مثالًا على المرأة التي لا تصنع التاريخ فقط بالكلمات، بل بالأفعال التي تتحدى الزمن.