أمازيغيات

مريريدا نايت عتيق: أيقونة الشعر الأمازيغي بالأطلس الكبير الأوسط

بقلم: الأستاذ محمد حمام

شاعرة ومغنية أمازيغية ولدت وعاشت في الأطلس الكبير الأوسط خلال النصف الأول من القرن الماضي. تم التعرف عليها وعلى أشعارها وأغانيها صدفة من قبل الفرنسي روني أولوج الذي كان منذ سنة 1923 مدرسا بدمنات، أهم تجمع حضري ، شرقي مدينة مراكش، وقد مكنه عمله في نفس المنطقة بدمنات أولا من إتقان لهجة تاشلحيت. كما أتاح له الفرصة للتنقل المستمر بين شعاب ووديان وقنن هذه المنطقة الخلابة الأمر الذي جعله يتعرف ليس فقط على جغرافيتها ومناخها، بل على سكانها (المستقرين وغير المستقرين) والذين شاركهم حياتهم اليومية البسيطة في عفويتها وتعقيداتها وآدابها وطقوسها وأفراحها وأحزانها.

وقد جاءت كتاباته الأدبية والشعرية معبرة ومسجلة لمشاهد إنسانية غاية في الدقة والعمق راوية لقصص فردية وجماعية، ولعادات وأعراف وأسرار درامية مريرة، وأغاني وأشعار مريريدا نايت عتيق أوأغاني وأشعار تاساوت ما هي إلا تجسيد واضح لما أولاه روني أولوج من اهتمام لسكان هذه المنطقة الجبلية الوعرة ولثقافتهم الأصيلة.

وهي لا تشكل إلا جزءا من أعماله الأدبية الكثيرة التي لا يسمح المقام للحديث عنها. ونظرا لغزارة مؤلفاته شعرا وأدبا ورواية، يعد روني أولوج من كبار أدباء الأدب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب، ما أحوجنا اليوم إلى دراسته دراسة رصينة وموضوعية خصوصا إذا علمنا أنه كان محبا للمغرب ولأهله، وعاش فيه بقية حياته وتحديدا في مدينة مراكش إلى أن وافته المنية يوم 07 أبريل سنة 1985 عن سن الخامسة والثمانين.

إذن يحسب لروني أولوج أنه ترجم لهذه الشاعرة الأمازيغية الأيقونة جامعا أشعارها وأعانيها التي ترجمها إلى لغة موليير في كتاب بعنوان: مريريدا نايت عتيق: أغاني (أشعار) تاساوت، وتعد هذه الطبعة الثالثة والأخيرة طبعة كاملة إذ أضاف إليها أشعارا عديدة لم تنشر في الطبعتين الأولى والثانية. وصدرت الطبعة الأخيرة عن مطابع Belvesi لكنها بدون تاريخ، ولعلها ظهرت بضعة سنين قبل وفاته.

جاء الكتاب في 187 صفحة في طبعة أنيقة من الحجم المتوسط، لا يخلومن صور لمشاهد إنسانية وطبيعية من الأطلس الكبير الأوسط وهي من عدسة المصور PATRICK FLAMENT قدم له الرئيس – الأكاديمي السينغالي الراحل ليوبولد صيدار سنغور.
يضم ما يزيد عن مائة قصيدة متفاوتة الحجم والأهمية، تتناول العديد من المواضيع الاجتماعية والاقتصادية والعاطفية والثقافية، خمسة قصائد هي – حسب مريريدا من نظم الشاعر علي ن ابقلون المنحدر من أعالي أيت بوݣمار. التقى به روني أولوج في دمنات سنة 1937، وكان بلغ من العمر عتيا: ثمانين عاما وأضاف روني أولوج إلى هذه الأشعار قصيدتين جادت بهما قريحته وهويتذكر مريريدا وباقي سكان الأطلس الكبير ممن تقاسم معهم بعض الذكريات، الأولى عنوانها: الليل الذي يرمز للظلام والكآبة لأنه أصبح أعمى في آخر حياته، أما الثانية فقد سماها ” العائدون ” Les Revenants كناية عن الجبليين المغتربين عن قراهم وحينما يعودون إليها يجدون أن كل شيء تغير تقريبا وبالتالي لا يقدرون على التكيف لطول غيابهم.

وقد نظم هذه القصيدة محاكاة لقصيدة قالتها مريريدا في حق باسوالمهاجر إلى الديار الفرنسية. وأثناء عودته أصبح تائها ولم تعد ترقه الحياة في مسقط رأسه ماك يغن أباسو؟ ما بك يا باسو؟ ولا يعرف لماذا؟ لكن جواب مريريدا كان واضحا وصريحا حين تجيب قائلة: عِشتَ بعيدا عن بلدك…
أما بالنسبة للرئيس والأكاديمي ليوبولد صيدار سنغور، مقدم الكتاب فيلاحظ منذ الوهلة الأولى أن ما يميز هذه الأشعار الأمازيغية هوجمالها الإفريقي (leur beauté africaine )، مضيفا أنه بتجاوزه للترجمة الفرنسية، نجد كلمات (أمازيغية) يستطيبها القلب والأذن معا. فالكلمات المغناة تثير الانفعال الذي يشكل العنصر الأول في الأسلوب الشعري. وهذا الأمر يستشف حين نقرأ هذه الأشعار الأمازيغية المكونة من نسيج مطروز بصور متقاربة ورمزية ذات دلالات مصورة تنبع بقوة من الروح ومن النفس لإثارة القلب والتأثير عليه.

ويؤكد ليوبولد صيدار سنغفور، في هذا الصدد، على أن الكلمات الشعرية لا تخاطب القلب فحسب، بل تتوجه أيضا إلى الأذن، معتقدا أن إفريقيا هي مهد الحضارة الإنسانية وفيها ظهر الشعر لأول مرة، وحينها ارتبط بالغناء، وهوغناء متعدد الصواتية. وهنا أشار إلى أن بلاد المغارب تتوفر على ترتيل غنائي كامل متعدد الصواتية. إن تنغم الكلمات والاشتغال عليها هومن صميم الشعر، وهوما تستطيبه الأذن والنفس معا. وبالنسبة إليه فأشعار تاساوت ليست “خشنة وفظة أوبدائية”، بل هي تعبير عن الحضارة الإفريقية التي منها تشكلت الحضارة الإنسانية.

وفي الأخير، شدد على أن المغرب – كما مصر – لهما تأثير قوي في أفريقيا جنوب الصحراء ومن ثمة في العالم، وقبل أن ينفتح المغرب على العالم الحديث وعلى أوربا وأمريكا، فإنه بدأ أولا في التجدر العميق في تربته الخصبة ” الأرض السوداء” أوكما يقول المصريون القدماء، إفريقيا الأم، وهذا ما تؤكده الأشعار الأمازيغية التي هي بين أيدينا اليوم.
وبعد صدور هذا الكتاب الفريد، أثار ردود فعل في الوسط الثقافي والإعلامي وذلك بتعليقات تشيد كلها بأهميته كإنتاج أدبي متميز يغني التراث الأدبي المغربي.

وفيما يلي أهم هذه التعليقات ، وهي لشخصيات ومؤسسات إعلامية وثقافية وازنة.
علي الصقلي (شاعر مغربي):
” تبين الأشعار المقدمة بمهارة في هذا الكتاب من قبل روني أولوج، أن السكان الذين يعيشون في الهامش ليسوا منعدمي الحكمة والإحساس والدعابة والحب.
إن عمل روني أولوج يشكل استراحة (للنفس)، وليس مجرد ترجمة للشعر الغنائي لمريريدا. وبفضل اطلاعه الواسع وموهبته المرموقة وشاعريته العميقة، جعلته يتيح لنا فرصة التعرف على تاساوت وحبها، وكذا معرفة سكانها ونمط عيشهم.

ومن جملة إنجازاته، وهومؤشر دال على نجاحه، أنه بمجرد ما تنتهي من القراءة تتملكنا الغيرة لأنه تعرف على مريريدا وسمعها وهي تغني بلغتها الأم (أي الأمازيغية). وكوني مغربي، عربي اللسان، وشديد الحب لبلدي، أعترف أن روني أولوج سَهل علي الأمر لأصل إلى لون من تراثنا الثقافي، وهولون مسوق بشكل خاص”
وقد نجح المترجم في عمله لاعتماده على مبدأين وجها عمله باستمرار: الإخلاص والصداقة.
جورج دوهامل Georges DUHAMEL (كاتب وصحفي فرنسي معروف).

الكتاب “هووثيقة نادرة قلما نعثر على مثلها خلال قرن من الزمان، كتاب عجيب ينبغي اقتناؤه والاحتفاظ به كما نحتفظ على بقايا شيء ثمين (Rilique).
شارل بينز charles Penz (كاتب ومحلل فرنسي).

” علينا أن نقدم الشكر لروني أولوج لأنه أخرج من النسيان الإنتاج الشفهي لمريريدا، وساعده في ذلك معرفته باللغة والتقاليد والروح الأمازيغية، ولذلك جاءت ترجمته مليئة بالصدق والانتعاش، وكذا المناجاة القوية والطراوة مع الاستحضار القوي للذكريات التي تتفاعل معها وتجعلنا في حبور وسرور.
وحسب ما أعلم يعتبر هذا الكتاب، المؤلف الغريب الذي لم ينتج مثله في المغرب إلى اليوم.
آندري بيليAndré Billy (كاتب فرنسي).

“…إن هذه الأشعار المؤثرة تتميز ببساطة ثوراتية تنبعث منها حرارة إنسانية لا يمكن إلا أن نتأثر بها. تفاجئ وتهز المشاعر وتخلق الاضطراب.
الأنباء الأدبية: Les nouvelles littéraires (مجلة ثقافية فرنسية).
” تمكننا أشعار تاساوت من النفاذ إلى حياة العشائر وإلى حميمية أسر وسط لا يزال يعيش على هامش التطور الذي شهده الكون، ولتقديم هذا العمل ذوالبعد الإنساني العميق في لغتنا (أي الفرنسية)، كان ضروريا التوفر على موهبة منقطعة النظير في الترجمة، مبرزة مدى حب روني أولوج للجبل (أي الأطلس الكبير) ولسكانه الأمازيغ الذين فجروا إلهامه.
مجلة لاماليف LAMALIF (مجلة ثقافية مغربية).

“… هوكتاب مؤثر جدا… معلم من معالم ثقافتنا الوطنية… لا نعرف في تاريخ الأدب المغربي إلا القليل من الشعراء الذين يرقون إلى مستوى مريريدا نايت عتيق”.
وخلاصة القول، تظل أشعار تساوت لمريريدة نايت عتيق، تعبر عن أحاسيس ولواعج إنسانية صادقة وعميقة. ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى دراستها والتعريف بها، لأنها جزء من هويتنا الثقافية المتجذرة. إلا أن ما يؤسف له أن روني أولوج أورد ترجمتها الفرنسية بدون النص الأمازيغي الأصلي الذي كان ولا شك يضم معاني وألفاظا أمازيغية أخرى ربما تكون قد فاتت المترجم وبالتالي فوتها على الملمين بلغة الزاي. لكنه يكفيه فخرا أنه عرف بها وأنقذها من الضياع.

يتبع

 

وصف مريريدا (1) نايت عتيق حسب روني أولوج

منذ البداية يشير المترجم إلى أنها شابة مغامرة (بنت هوى) كانت تقطن بسوق أزيلال المحاط بأسوار عالمة تتخللها عدة أبراج. كانت تعيش هناك رفقة شابتين أخريين. لم تصل بعد إلى الثلاثين من عمرها. ذات جمال معين. عيناها كبيرتان ذات نظرات بليغة. قسمات وجهها واضحة بيضاء، لكنها تغيرت مبكرا. وهومظهر متميز ومؤثر في نفس الوقت، ولا يمكن نسيانه.
لا أحد كان يعير اهتماما لشعرها ولا لأغانيها سواء العسكريون الفرنسيون (الݣوم) أومرتادي السوق كسائقي الشاحنات والتجار والفلاحين وغيرهم.
أضاف أنه تعرف عليها صدفة في إحدى زياراته لأزيلال خلال العقد الرابع من القرن الماضي بواسطة أحد الأصدقاء ممن كانوا مجندين في الݣوم هناك. وكان هذا الأخير قد خاطبه قائلا:” حسنا، عندي لك اكتشاف. هذا المساء سنتوجه لشرب الشاي عند مريريدا. لا تطلب مني شيئا آخر لأن اللقاء سيحتفظ لك مفاجأة لا تنسى”.
أية مفاجأة؟ وأي اكتشاف؟ معترفا أنه منذ ذلك اللقاء كان يتردد إلى “سكناها” مستمعا لأغانيها ومترجما لأشعارها في احترام تام للنص الشفوي الأمازيغي، مشيرا إلى أن أغاني تساوت ظلت صامتة بين الوثائق والأوراق التي جمعها أثناء تنقلاته الكثيرة في الأطلس الكبير طيلة نصف قرن من الزمان. وبمرور الوقت، انتابته تلك الذكريات الجميلة، فتولد لديه فضول كبير للرجوع إليها، وتذكر بقوة أصدقاءه في الأودية العليا، وكل مرحلة من مراحل تنقله تلك الأمكنة السحيقة وكانت ترن في أذنيه بعض الكلمات الطيبة التي كانوا يهتفون بها أثناء مروره، مثل: ” تُحَادثنا بقلب مفتوح، وكلنا من نفس الطيف، وكنتَ أخًا لنا..
أما عن عادات شاعرتنا الفذة، فيقول إنها كانت تسهر ليلا ولا تستيقظ إلا في وقت العصر (الثالثة أوالرابعة بعد الزوال)، معتقدة أن النوم هوأكبر نعمة وسعادة في هذه الدنيا، لذلك كانت ملاقاتها تتم في المساء. كانت ترتدي زيا خفيفا من النوع الفاخر الموشى بخيوط الحرير والذهب، كانت تتعطر بالياسمين الذي كان يملأ المكان، وكانت تعلومحياها الابتسامة وتظهر أسنانها المحاطة بشفتين ذات حمرة برتقالية متأسفا لكونها غليظة شيئا ما. وأيا كان الأمر، فهي على استعداد نفسي لتنطلق في نشوتها أوفي كآبة شديدة.
كانت مريريدا تعيش رفقة صديقين مخلصتين لها، باشا المنحدرة من زاوية الشيخ، وبيهية التي أصلها من أمسمرير. هاتان الفتاتان اللتان لا تتجاوزان العشرين ربيعا، وصلتا إلى أزيلال بعيدا عن منطقتيهما في ظروف لا يمكن إلا أن تكون صعبة في ذلك الوقت. وبقدر ما كانت الأولى طويلة القامة، نحيفة الجسم، بقدر ما كانت الثانية صغيرة ممتلئة. لطيفتان، بشوشتان، متخلقتان، تولد لديهما ميل مفرط للشراب.
وقد كانت اللقاءات والمسامرات التي تقوم بها مريريدا معية هاتين الشابتين، فرصة سانحة لروني أولوج لتسجيل وكتابة القصص والأشعار والأغاني التي كانت الشابة وتجيد الأمازيغية مريريدا تعزفها جيدا وتعرف سردها وغناءها، وتجيد في نفس الوقت كيف تدخل عليها بعض العناصر والإضافات من قريحتها، وقد اتضح ذلك للمترجم روني أولوج حينما يقابلها مع ما هومقيد في مذكراته.
وكانت مريريدا تَنْضَامْت تتلذذ بشوق كبير ذكرياتها بوادي تاساوت مستحضرة للحظات وأحداث بعينها عاشتها في طفولتها هناك سواء في إغرم (القصر) أوتݣامت (الغابة) أوعلى جنبات واد تيموتا (Timouta)، أوفوق أسطح المنازل أوداخل البيوت.
وليس مستبعدا أنها بترديدها لهذه الأشعار وغناءها، كانت مريريدا تُمَني نفسها بالرجوع إلى مسقط رأسها في يوم من الأيام! ومن يدري؟
وفي غضون ذلك، ومن حين لآخر، كانت تسقط دمعة من عينها على خدها ويخفت صوتها، وتخفف عن نفسها آلامها وما حل بها من شظف عيش لم تكن تستحقه.
كانت مريريدا تغطي جسدها بملحفة أَحْنْدير المزركش (أفرقاش) المعروف في تلك المنطقة والذي لم يعد ينسجه أحد. كانت تتزين بحلي ثقيل، وحينما تحرك يديها الناعمتين تبدومنهما أساور من فضة. شعرها كثيف أسود اللون. كان روني أولوج يشبهها بنباب أماغيليس وهونبات من صنف النرجسيات، وكلما سمعت تلك الكلمة، تكون مرتبكة مما يثير حفيظتها.
كانت لا تتوقف عن الغناء. وكانت تغني لجبالها وأوديتها متذكرة الحياة اليومية التي عاشتها، والمآسي العائلية وأفراحها وأحزانها. وكانت في تلك اللحظات المؤثرة تصل إلى أعلى درجات مشاعرها التي تحولها إلى حالة سكر وهذيان للتخفيف من معاناتها التي أصابتها.
واعترف روني أولوج أنه كان يتجاوب مع هذه الفنانة الكبيرة في تقارب روحي كبير، كثيرا ما يكتشف باندهاش كبير أن لديها نفسا عالية ومنشرحة، وسخية، واستثنائية وغير منتظرة في قلب الأطلس الكبير، وزاد قائلا أنه كان يشعر أن النار تحترقها من الداخل بفعل حبها الشديد لهذا الجبل (الأطلس الكبير الأوسط) الذي منحها إلهاما أصيلا وفنا متميزا وإبداعا قويا لم تكن واعية بذلك. وسعى روني أولوج ليفهمها أن الطبيعة لا تعطي نفسا إلاهيا للفن بقدر ما أن الشاعر هوالذي الذي يظهر محاسنه، بل ويضفي على فنه كل ما يريد من الرقي والسمو.
وأضاف روني أولوج ملاحظا أن الذكاء، وهذا الشعور والتعبير الشعري عند مريريدا له مكانة خاصة، وأنه مؤثر إلى درجة الهوس في فتاة غير متعلمة، صغيرة غليظة الطبع وتنحدر من قرية مݣداز.
كما ذهب إلى أنها كانت تحترم قوات الطبيعة، إن لم نقل تقدسها، وهوما تعبر عنه بعض أشعارها وأغانيها. كما يعبر بعضها الآخر عن أحادية الوجود والطبيعة.

ما هومصير ربة الغناء والشعر؟

يقول روني أولوج أنه بعد الحرب العالمية الثانية أتيحت له الفرصة لزيارة أزيلال فذهب يسأل عن مريريدا نايت عتيق في المكان المخصص للنساء بالسوق فوجده مهجورا، متسخا، ولا أحد دله على وجهتها هي ورفيقتيها، وخاب أمله أيضا في العثور عليها في قرية مݣداز البعيدة التي كانت تدعي أنها منحدرة منها. وكلما سأل عنها إلا وانزعج الناس لذلك وشعر بأنهم تنكروا لها، ربما لسلوكها المتفسخ، ملاحظا في هذا الصدد أنها كذبت بخصوص مسقط رأسها الحقيقي، ربما احتراما لوالديها وعدم المساس بسمعتهم، وتساءل كيف كان بإمكانها أن تتحدث بحنان وبالتفاصيل عن قصر مݣداز الموجود في مكان منزوي، في عمق مضايق أسيف تيموتا؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فقد تكون رأت النور في إحدى القرى المبعثرة على ضفاف واد تساوت. وهنا أيضا لم تفض أبحاثه إلى أية نتيجة.
وفي سنة 1954، التقى روني أولوج صدفة قريبا من أيت أوريات بأيت بوݣمار بسيدة أثرت عليها السنون بشكل واضح، لكنها قوية البنية، بشوشة، كانت ترتدي ملابس تدل على حياة كريمة. كانت تعيش مع والدها الذي بلغ من العمر عتيا، رجل ذوهيئة ضخمة، لحيته مخضبة بالحياء، كان فخورا بها حينما كانت “عسكرية” بسوق أزيلال، حمسة عشر عاما قبل ذلك، وكانت إحدى رفيقات مريريدا ” تَنْضَامْت ” (الشاعرة) التي كانت حسب قولها تختار عشاقها.
وبعد ذلك تتبع روني أولوج أخبارها تباعا في تاݣلفت وواويزغت وبني ملال، دون جدوى. وتساءل: هل أعيتها المحن والمصائب ورجعت إلى مسقط رأسها المغمور؟ أم أنها سقطت في براثن أوكار الرذيلة في إحدى المدن الكبرى كالدار البيضاء وفاس وغيرهما؟
وإذا أصبحت بعيدا عن تساوت موطنها الأصلي، فإنها لا محالة شبه ميتة، إنها نبات الجبل ينبغي رده إلى أصله لأن جذوره تنموبين الأحجار ولا يمكنه أن بالتالي ينبت ويترعرع إلا ويضربه المطر والريح. أما أرض وظلال وشمس السهل، فلن تساعد إلا في موته.
ويشير روني أولوج في نهاية تقديمه لكتابه حول أغاني وأشعار تاساوت إلى أنه تعمد عدم الخوض في تصنيفها مؤكدا على كونه، منذ أن تعرف على مريريدا، لم يتوقف في الاستماع لأغانيها وأشعارها في لهجتها تاشلحيت التي أعجب بها أيما إعجاب، وأنه لم يخطر بباله أنه سيقوم بنشرها في يوم من الأيام. وعديدة هي الأشعار التي تخلى عنها، متأسفا لذلك، وخصوصا منها الأشعار والأغاني القصيرة التي تتحدث عن الحياة الاجتماعية، وعن الاشتغال في الحقول، وتتحدث أيضا عن العادات والتقاليد والطقوس المتخلى عنها، وهي تستحق الترجمة، ونما عنده الوعي أن مجموع إنتاج مريريدا نايت عتيق ما هوإلا دراسة لعادات وتقاليد جديرة بالاهتمام، إضافة إلى كونها تغرف من مصادرها الأصلية.
ولم يفته أن يلاحظ كذلك، أنه كلما تقدم في السن إلا واتضح له أن مريريدا كان لها إلهام قوي في أعلى بساطته، وهي بدون منازع وجه أمازيغي كبير في الأطلس الكبير.
وأضاف أن مريريدا تركت هذا العالم ووادي تساوت وإخوانها الجبلين دون أن تعي أنها زرعت شيئا (جميلا) قبل اختفاءها عن الأنظار.
وفي سنة 1975 عثر روني أولوج في أوراقه ومستنداته على ثلاثين من أشعارها وأضافها إلى هذه الطبعة الثالثة.

(1) تعني في الأطلس الكبير وفي تساوت تحديدا الضفدعة الخضراء ذات البطن الأبيض التي تعيش في الأماكن الرطبة والمعشوشبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى