عدالة

سوسيولوجيا الفِطر (الفگِّيعْ):نقد في راهنية الحقل السوسيولوجي المغربي

بقلم :د. عبد اللطيف رويان

باحث في سوسيولوجيا الجريمة والانحراف

 

في راهنيتها، لم تعد السوسيولوجيا المغربية مرآةً شفّافةً تعكس البنيات الاجتماعية، بقدر ما أضحت، في كثير من تجلياتها، أشبه بنبات الفِطر (أو “الفگِّيعْ” باللسان المغربي الدارج): كائن معرفي طارئ، ينمو فجأة، في كل الاتجاهات، داخل بيئات معرفية رخوة، وبشروط إنتاج غامضة، فوق تربة نظرية متحللة، ومن دون جذور إبستيمولوجية واضحة أو نسق تفسيري متماسك. لقد غدت السوسيولوجيا، كما تتمثل اليوم في الإنتاج الجامعي المغربي، حقلًا يشهد تكاثرًا غير مضبوط، وتناسلات معرفية عشوائية، تفتقر إلى الصرامة المفاهيمية، وتخلو من هندسة نظرية تؤطر الخطاب وتمنحه شرعية تفسيرية.

وكما ينبت الفِطر في العتمة والرطوبة، بعيدًا عن النظام الحيوي الصلب، كذلك تنمو اليوم مقاربات سوسيولوجية مغربية منفلتة، تميل إلى التأويل السريع والتشخيص المفرط، وتقتات على اللحظة الاجتماعية دون تأصيل أو استقراء. تتقاطع أحيانًا مع الإعلام، أو تواكب النقاشات العمومية الموسمية، أو تُساير “موضات” فكرية معولمة، لكنها نادرًا ما تنخرط في برامج بحثية رصينة، أو تصوغ مشروعًا معرفيًا واضحًا يُراكم الفهم النظري ويقترح أدوات للتحليل. وكثيرًا ما تُنتَج هذه السوسيولوجيا تحت منطق السوق الجامعي الضاغط: إكراهات النشر، ضغط التخرج، هوس الندوات، وجاذبية الرؤية السريعة، وكلها عناصر تُغري بالكمّ على حساب الكيف، وتُعلي من الإنجاز السطحي على حساب التأصيل العميق.

بهذا المعنى، فإن الخطر الذي يتهدد السوسيولوجيا المغربية اليوم لا يأتي من خارجها، بل من داخلها: خطر تحوّلها إلى خطاب طفيلي، يتغذى على فتات الواقع بدل تحليله، ويستعير أدواته من الحقول المجاورة دون مساءلتها؛ خطابٌ يتكاثر كما الفِطر، لكنه لا يُثمر معرفة، بل يُعيد إنتاج هشاشة الحقل نفسه.

بل إن ما يُفاقم هذا المأزق المعرفي هو تعذّر تصنيف الفاعل السوسيولوجي نفسه داخل السياق المغربي: هل هو باحثٌ علمي؟ أم فقيه اجتماعي؟ أم راوي تراثي؟ أم “حلايقي” حديث؟ هذا التذبذب بين المقام الأكاديمي الصارم، والمقام السردي الحيّ، والمقام الأخلاقي الوعظي، ينعكس في لغة الإنتاج السوسيولوجي، ويُنتج اختلاطًا في الأدوار، وتداخلًا بين الوصف والتحليل، وبين التفسير والتبشير. وهو ما يضع السوسيولوجيا المغربية، لا فقط أمام أزمة أدوات، بل أمام أزمة هوية سوسيولوجية لم تُحسم بعد.

إن هذا النقد لا يُنكر ما قدّمته السوسيولوجيا المغربية من اجتهادات رائدة في مراحل سابقة، خاصة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين ارتبطت بأسئلة الدولة، والهامش، والحركات الاجتماعية، والسلطة الرمزية، لكنه يسعى إلى مساءلتها في لحظةٍ حرجة من تحولها إلى مجرد استجابة شكلية للطلب الأكاديمي أو المؤسسي، دون التمكّن من بلورة أطروحات تفسيرية حقيقية. إن السوسيولوجيا، التي وُلدت تاريخيًا كاستجابة عقلانية لأزمات التحديث، باتت – في صيغتها المغربية الراهنة – مهددة بالتحوّل إلى مجرد ممارسة تفسيرية مرتجلة، متأخرة دائمًا عن الحدث، أو مهووسة به إلى درجة التماهي والانفعال، على حساب المسافة النظرية والتحليل البنيوي.

لقد أصبحنا نُنتج، باسم السوسيولوجيا، مئات العناوين كل سنة، لكن عدد الأطروحات التي تُقارب الواقع المغربي برؤية تحليلية متماسكة يكاد يكون معدوما. نشتغل على قضايا الهشاشة، العنف، الحركات الاحتجاجية، السياسات العمومية، أو الديناميات الثقافية، لكن من داخل مقاربات توصيفية تفتقر إلى العمق، وتُراكم الوقائع بدل أن تُفكك بنيتها. إننا أمام ردود أفعال تحليلية أكثر مما نحن بصدد بناء نظري، وأمام إعادة تدوير للمفاهيم أكثر من توليد أدوات جديدة.

فكما ينمو الفِطر بعد كل عارض ممطر، دون أن يُمثّل جزءًا أصيلًا من النظام البيئي، كذلك تتكاثر التحليلات السوسيولوجية عقب كل حدث سياسي أو حادث اجتماعي، دون قدرة فعلية على توليد معرفة صالحة للتعميم، أو إنتاج تراكم نقدي يمتد إلى ما بعد الحدث والحادث. إنها سوسيولوجيا مُفرطة في آنِيَّتها، وهشة في تعاليها.

هذا التشبيه – سواء قُرئ بشكل قدحي أو استعاري – لا يروم إلغاء السوسيولوجيا المغربية، بل مساءلتها من الداخل، في لحظة انكشاف مزدوج: انكشاف أمام الواقع الاجتماعي المتحوّل الذي لم تعد تواكبه أو تتفاعل معه، وانكشاف أمام السوق الجامعي الذي يُفرّغها من بعدها النقدي، وانكشاف أخير أمام الذات الأكاديمية التي تدفعها نحو “البرودكاست النظري” بدل التنقيب والتفكيك. لقد فقدت السوسيولوجيا، في كثير من تمظهراتها المغربية الراهنة، علاقتها العضوية بالبنيات الاجتماعية الواقعية، تمامًا كما ينمو الفِطر فوق أجسام ميتة، لا جذور له فيها، ولا غذاء إلا من بقاياها.

في هذا السياق، تبرز أسئلة لا يمكن تجاهلها: هل ما ننتجه اليوم داخل الجامعات ومراكز البحث هو فعلًا علم اجتماع؟ أم مجرد كلام اجتماعي مموّه بلغة علمية؟ هل السوسيولوجيا المغربية تُفسّر المجتمع أم تُجمّله؟ هل تُعمّق فهمنا للواقع المغربي، أم تسهم في تمييعه وتحويله إلى سلسلة حالات معزولة؟

وإذ نعود إلى استعارة الفِطر، فليس قصدُنا التهكّم على السوسيولوجيا المغربية، بل استدعاءها إلى لحظة تأمل معرفي صادق؛ إن هذا التشبيه لا يُراد به إلا أن يكون نداءً مُلحًا إلى استعادة الجذر النظري، وتثبيت أدوات الفهم، والتمييز الحاسم بين ما يُنتج معرفةً قابلة للصمود، وما لا يتجاوز عتبة الضجيج التحليلي العابر. إنها دعوة لا إلى الإقصاء بل إلى الفرز، لا إلى التوسيع الاعتباطي بل إلى التأصيل الصارم، لا إلى الانكفاء بل إلى الجرأة في مساءلة الحقل من الداخل، بدل الاكتفاء بالحفر على سطحه المُهتز.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى