العنف ضد المرأة بين الهيمنة الاجتماعية والثقافة القانونية: قراءة سوسيولوجية نقدية لحالة إيمان

د. هشام بوقشوش / باحث في علم الاجتماع
العنف كظاهرة اجتماعية متجذرة
العنف ضد النساء لا يمكن فهمه على أنه حادث فردي منعزل، بل هو ظاهرة اجتماعية متجذرة تنبثق من نظام اجتماعي أوسع يكرّس هيمنة الذكور على النساء. هذا النظام يشمل مجموعة من القيم الثقافية والممارسات القانونية والاجتماعية التي تجعل النساء أحيانا في مواقع ضعف وانكشاف أمام أشكال مختلفة من العنف، سواء الجسدي أو النفسي أو الرمزي. على سبيل المثال، إجبار الضحية على الزواج من مغتصبها يظهر كيف يمكن للقوانين والممارسات الاجتماعية أن تتحول إلى أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة الذكورية، إذ تفرض على المرأة مسؤوليات إضافية تجاه الطفل وتجاه الترتيبات الاجتماعية، بينما تستبعد من حماية فعالة أو اختيارات بديلة حقيقية.
من منظور إرفينغ غوفمان (Goffman)، يمكن اعتبار هذا العنف استمرارا للوصم الاجتماعي الذي يلاحق الضحية، حيث تحوّل المرأة إلى “موضوع معيب” في نظر المجتمع، ويصبح وجودها الاجتماعي مقترنا بالعار والخزي، ما يزيد من ضعفها أمام العنف المستمر ويحد من قدرتها على المطالبة بحقوقها أو استعادة مكانتها الإنسانية الكاملة. وفي نفس السياق، يرى بيير بورديو (Bourdieu) أن العنف لا يقتصر على الجوانب الجسدية، بل هو جزء من الهيمنة الرمزية؛ فالذكور يمارسون سلطتهم الجسدية والرمزية على النساء، وتعمل البنى الثقافية والاجتماعية على منح المعتدي حقا ضمنيا في الاستمرار بالإيذاء، من خلال ما يعرف بالطقوس اليومية والعلاقات غير المتكافئة التي تعيد إنتاج الفروق في السلطة بشكل مستمر.
بذلك، يتضح أن العنف ضد النساء ليس مجرد أفعال معزولة، بل هو نتاج متشابك بين الهياكل الاجتماعية والثقافية والقانونية، ما يحوّل المرأة إلى ضحية مستمرة ضمن شبكة من القوى التي تحمي الجاني وتُكرّس وضعها الضعيف في المجتمع.
الفجوة بين القانون والثقافة: الزواج القسري بعد الاغتصاب
على الرغم من التعديلات القانونية التي أدخلت بعد حادثة أمينة الفيلالي التي انتحرت سنة 2012 لمنع تزويج المغتصب من ضحيته، تظل بعض الحالات، كما في تجربة إيمان، تعكس فجوة كبيرة بين النص القانوني والواقع الاجتماعي. فحتى مع وجود القانون الذي يهدف إلى حماية الضحايا وضمان حقهن في حرية الاختيار، تستمر بعض الأعراف الثقافية والضغوط الاجتماعية في فرض تزويج قسري يكرس العنف والهيمنة الذكورية.
من منظور سوسيولوجي نقدي، هذه الفجوة تظهر أن القوانين وحدها لا تكفي لمواجهة العنف، إذ تعتمد فعاليتها على مدى تطبيقها وإدراك المجتمع بها، وعلى قدرة الضحية على مقاومة الضغوط الاجتماعية. فالزواج القسري في هذه الحالات يصبح أداة لإعادة إنتاج العلاقات غير المتكافئة للسلطة بين الجنسين، حيث تمارس الهيمنة الثقافية على المرأة، حتى في مواجهة نصوص قانونية تحميها.
توضح هذه الحالة أن العنف ضد المرأة يمتد إلى ما وراء الأفعال الفردية ليشمل البنى الثقافية والاجتماعية، وأن القانون وحده لا يكفي لكسر دائرة العنف. إذ يتطلب الأمر تفاعلا متكاملا بين القانون، الثقافة، والتعليم، والدعم المجتمعي لضمان حماية فعلية للضحايا، وتمكينهن من ممارسة حقوقهن بحرية وأمان، بعيدا عن أي ضغط اجتماعي أو قانوني يفرض الخضوع للظلم.
العنف المزدوج: جسدي، رمزي ونفسي
تظهر قصة “إيمان” أن العنف الذي تتعرض له النساء لا يقتصر على البعد الجسدي وحده، بل هو عنف مزدوج أو مضاعف يتغلغل في جميع أبعاد حياتهن الاجتماعية والنفسية. أولا، هناك العنف الجسدي المباشر، المتمثل في الاعتداء بالسلاح الأبيض الذي أحدث جروحا غائرة في الوجه واليد، وهو اعتداء يترك آثارا جسدية مؤلمة تتطلب تدخلا طبيا عاجلا، كما يترك أثرا نفسيا عميقا نتيجة الصدمة الناتجة عن مواجهة الموت أو فقدان السيطرة على الجسد.
ثانيا، هناك العنف الرمزي والاجتماعي، الذي يتجلى في الممارسات الثقافية والاجتماعية المحيطة بالضحية. الزواج القسري من المغتصب يمثل نموذجا صارخا على كيفية إخضاع المرأة للسلطة الاجتماعية والذكورية، بينما يضاعف الضغط المجتمعي والإهانة المستمرة شعور الضحية بالوصمة والعار، ويجعلها تعيش في حالة دائمة من الخوف والانكفاء على الذات. هذا العنف الرمزي يفرض عليها قيودا اجتماعية غير مرئية، تحدّ من قدرتها على المطالبة بحقوقها أو البحث عن حماية قانونية فعالة، ويجعل كل محاولة للانفصال أو المقاومة محفوفة بالخطر.
إن تداخل هذه الأبعاد الثلاثة – الجسدية والنفسية والرمزية – يوضح أن العنف ضد المرأة ليس مجرد اعتداء فردي جسدي، بل هو شبكة معقدة من التهميش الاجتماعي، والإقصاء النفسي، والإطار القانوني غير الفعال، ما يجعل الضحية محاصرة داخل دائرة مستمرة من العنف، ويؤكد على ضرورة النظر إليه باعتباره مسألة بنيوية واجتماعية، وليست قضية فردية فحسب.
دور المؤسسات والقوانين في تعزيز أو حماية الضعف
تلعب المؤسسات القانونية والاجتماعية دورا مزدوجا في قضية العنف ضد النساء؛ فهي من جهة قادرة على الحماية والوقاية، ومن جهة أخرى يمكن أن تصبح أداة لتعميق الضعف واستمرار المعاناة. فإجبار الضحية على الزواج من مغتصبها يعكس إطارا قانونيا واجتماعيا يكرس إخضاع المرأة للمسؤولية الاجتماعية تجاه الطفل، حتى عندما يكون الطفل مولودا نتيجة اغتصاب، وهو ما يضع الضحية في حلقة عنف متواصلة، ويجعل أي محاولة للهرب أو المطالبة بحقوقها الشخصية محفوفة بالمخاطر الاجتماعية والقانونية.
كما يظهر ضعف حماية النساء بعد الطلاق قصور المنظومة القضائية والشرطية في التدخل المبكر والفعّال، إذ يظل المعتدي حرا في متابعة الضحية، ما يضاعف تعرضها للعنف ويعمق آثار الصدمة الجسدية والنفسية. هذا القصور يكشف عن نقص آليات الوقاية، والتدابير الاستباقية، والدعم النفسي والاجتماعي للنساء اللواتي انتهكت حقوقهن، ويحول النظام القانوني أحيانا إلى عامل إضافي للإيذاء بدلا من أن يكون وسيلة للعدالة والحماية.
لذلك، تصبح الحاجة ماسة لتطوير آليات حماية فعالة وشاملة، تشمل التدخل الطبي لتخفيف الأضرار الجسدية، والدعم النفسي لمواجهة الصدمات النفسية والرمزية، والمرافقة القانونية لضمان محاكمة عادلة ومنصفة، وليس الاقتصار على تسجيل شكوى أو انتظار المحاكمة بعد وقوع الجريمة. إن تبني منظومة حماية شاملة يساهم في كسر دائرة العنف المستمر ويعيد للمرأة حقها في السلامة والكرامة، بدل أن تترك فريسة للهياكل الاجتماعية والقانونية غير المهيكلة.
التأثير النفسي والاجتماعي على الضحية
العنف المتكرر الذي تتعرض له النساء، كما هو الحال في قصة إيمان، لا يقتصر على الأذى الجسدي، بل يمتد إلى أبعاد نفسية واجتماعية عميقة. من منظور علم الاجتماع النفسي، يولّد هذا العنف ما يعرف بـالعزلة الاجتماعية والإقصاء الرمزي، إذ تصبح الضحية محط مراقبة مستمرة ووصم اجتماعي دائم يجعلها معرضة للخطر بشكل مستمر. هذا الوصم يعمّق شعورها بالانكفاء على الذات، ويحد من قدرتها على الانخراط في الحياة الاجتماعية بحرية، كما يزيد من معاناتها النفسية ويؤثر على تقديرها لذاتها وقدرتها على الدفاع عن نفسها.
من منظور سوسيولوجي نقدي، يمكن القول إن الضحية تتحول إلى مسرح اجتماعي للصراع بين السلطة الذكورية والقيم الثقافية التقليدية، حيث يلقى عليها جزء من المسؤولية الاجتماعية عن الاعتداء الذي تعرضت له، نتيجة الخيارات الاجتماعية المحدودة والقيود الثقافية المفروضة عليها. إذ ينظر إليها أحيانا باعتبارها “مذنبة جزئيا” لمجرد محاولتها العيش ضمن هذه القيود أو رفضها الخضوع الكامل للهياكل الاجتماعية المهيمنة.
هذا التفاعل بين العنف الجسدي، والوصم الرمزي، والإطار الثقافي يخلق حلقة مستمرة من الإجهاد النفسي، العزلة الاجتماعية، وانعدام الدعم، ما يجعل الحاجة إلى تدخل متعدد الأبعاد – طبي، نفسي، اجتماعي وقانوني – أمرا ضروريا لكسر دائرة العنف واستعادة كرامة الضحية وحريتها الاجتماعية.
قراءة نقدية للعنف من منظور البنية والنسق الاجتماعي
يمكن النظر إلى العنف ضد المرأة، كما في حالة إيمان، ليس كفعل فردي منعزل، بل كنتيجة لتفاعل معقد بين البنية الاجتماعية، الثقافة، والقوانين التي تعمل معًا لإعادة إنتاج وعدم تحدي علاقات الهيمنة بين الجنسين. العنف هنا يصبح جزءًا من نسق اجتماعي شامل، حيث تتشابك القيم والممارسات الثقافية مع الأطر القانونية لتشكل بيئة تكرس عدم المساواة وتسمح بتكرار الانتهاكات.
فالثقافة التي تضع النساء تحت وصاية الرجال، وتفرض عليهن قيودا اجتماعية محددة، إلى جانب الأنظمة القانونية التي تفرض الزواج القسري بعد حالات الاغتصاب، تعمل كإطار يسمح للعنف بالتصاعد والاستمرار، ويجعل الضحية محاصرة بين التقاليد الاجتماعية والقوانين غير الواقعية. في هذا السياق، يصبح العنف جزءا من الممارسات اليومية والروتينية، ما يجعله معزولا عن أي مساءلة حقيقية ويديم دائرة الظلم الاجتماعي.
من منظور ميشيل فوكو (Foucault)، تعكس هذه الحالة علاقة القوة والمعرفة: السلطة الاجتماعية لا تظهر فقط من خلال الأفعال المباشرة للعنف، بل أيضا عبر تنظيم الممارسات اليومية، تشكيل السلوكيات، والتحكم في المعرفة المتاحة للأفراد. بهذا المعنى، تنتج السلطة الاجتماعية الممارسات العنيفة وتعمّق عدم المساواة بين الجنسين، بحيث يصبح العنف جزءا من نسق اجتماعي طويل الأمد، لا مجرد حدث فردي، ما يستدعي تدخلات شمولية لتفكيك البنية التي تسمح باستمراره.
توصيات نقدية سوسيولوجية
استنادا إلى التحليل السوسيولوجي النقدي، تبرز الحاجة إلى استراتيجيات تدخل متعددة الأبعاد للتصدي للعنف ضد النساء، تشمل الأبعاد الطبية والنفسية والقانونية. على الصعيد الطبي، يجب توفير رعاية عاجلة ومتخصصة للتعامل مع الإصابات الجسدية الناتجة عن الاعتداء، بما في ذلك جراحة الجلد والتجميل، لتقليل الأضرار طويلة الأمد. أما على المستوى النفسي، فلابد من جلسات دعم متخصصة واستمرارية المرافقة النفسية لمواجهة الصدمات النفسية والرمزية المتراكمة نتيجة العنف المتكرر.
على المستوى القانوني، يتعين مراجعة الإطار القانوني الذي يعيد إنتاج الزواج القسري بعد حالات الاغتصاب بعدما تم القطع معه قانونيا، بما يحمي حقوق الضحايا ويمنحهن حرية الاختيار دون ضغط اجتماعي أو قانوني. كما يجب ضمان محاكمات عادلة ومنصفة للمعتدين، مع توفير خدمات محاماة مجانية للضحايا لدعم قدرتهن على الدفاع عن أنفسهن.
إلى جانب التدخلات الفردية، يلزم القيام بـ حملات توعية مجتمعية لمواجهة الوصم الاجتماعي الذي يلاحق الضحايا، وتوفير مساحات آمنة للدعم والمرافقة المستمرة، سواء من قبل مؤسسات الدولة أو منظمات المجتمع المدني. كما يجب تحليل الثقافة المجتمعية السائدة التي تطيل دائرة العنف ضد النساء، بما في ذلك الأدوار التي تلعبها وسائل الإعلام، التعليم، والسياسات الاجتماعية، والعمل على تغيير الممارسات والقيم التي تعزز الهيمنة الذكورية وتكرّس العنف ضد النساء.
خلاصة نقدية
باختصار، تكشف قراءة حالة إيمان من منظور سوسيولوجي نقدي أن العنف ضد النساء لا يفهم على أنه مجرد فعل فردي منعزل، بل هو متجذر في البنية الاجتماعية والثقافية التي تعزز الهيمنة الذكورية وتضع النساء في مواقع ضعف مستمرة. كما يظهر أن هناك تفاعلا متشابكا بين العنف الجسدي، الرمزي، والقانوني، ما يضاعف معاناة المرأة ويجعلها محاصرة داخل دائرة مستمرة من الألم والوصم الاجتماعي.
بناء على ذلك، تصبح الحلول الفعالة تدخلات شمولية تشمل إعادة النظر في القوانين التي تعيق حماية النساء، تعديل القيم والممارسات الثقافية التي تعزز التمييز، وتوفير دعم نفسي واجتماعي مستمر، إلى جانب آليات حماية قانونية فعالة، لضمان استعادة كرامة الضحايا وتمكينهن من المشاركة في المجتمع بحرية وأمان.