الجزائر وتدهور علاقاتها الإقليمية: بين تدخلات مرفوضة وعزلة متفاقمة في ظل الصعود المغربي في إفريقيا

ابراهيم ادريسي
في ظل ديناميكيات إقليمية متسارعة، تتسع الفجوة بين الخطاب الجزائري الذي يرفع شعار “السيادة وعدم التدخل”، وبين ممارسات ميدانية تُوصف من قبل عدة دول مجاورة بأنها تدخل في الشؤون الداخلية وتخريب للتوازنات الإقليمية. حادثة تدمير الطائرة المسيرة المالية من طرف الجزائر ورفع القضية إلى المحكمة الدولية للعدل تمثل نموذجًا متجددًا لهذا التوتر. لكن الأهم من ذلك هو أن الجزائر تجد نفسها محاصرة سياسيًا ودبلوماسيًا، في وقت يُوسّع فيه المغرب نفوذه في القارة الإفريقية بهدوء وفاعلية عبر مقاربة مغايرة تمامًا.
تدخلات متزايدة أم ارتباك استراتيجي؟
الجزائر دخلت، خلال العقد الأخير، في دوائر صراع مع أغلب دول الجوار:
مع المغرب: توتر مزمن وقطيعة دبلوماسية منذ 2021؛
مع مالي: قضية أمام محكمة العدل الدولية؛
مع ليبيا: تنافس على النفوذ في الجنوب؛
مع النيجر وبوركينا فاسو: علاقات متوترة مع السلطات العسكرية الجديدة؛
مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS): مواقف رمادية تفقدها المصداقية.
في الوقت الذي تزعم فيه الجزائر أنها تسعى لحماية أمنها القومي، تنظر إليها هذه الدول على أنها تسعى لتصدير أزمتها الداخلية وفرض “وصاية سياسية” غير مقبولة. هذا ما أدى إلى عزلتها التدريجية في محيطها، رغم تاريخها الطويل في قيادة الحركات التحررية.
المغرب في إفريقيا: صعود هادئ بثقافة “رابح-رابح”
في تناقض صارخ، ينتهج المغرب سياسة خارجية تعتمد على البراغماتية الاقتصادية والدبلوماسية الناعمة، ضمن رؤية ملكية واضحة تستند إلى مبدأ “رابح-رابح” في التعاون جنوب-جنوب.
الإنجازات المغربية:
الاقتصاد: المغرب أصبح من أكبر المستثمرين الأفارقة في غرب إفريقيا ووسطها، من خلال بنوك كبرى، شركات التأمين، والبنية التحتية؛
السياسة: أعاد الانضمام إلى الاتحاد الإفريقي عام 2017، وأطلق مبادرات إقليمية متعددة من أبرزها مشروع أنبوب الغاز مع نيجيريا؛
الديناميكية الدبلوماسية: افتتحت أكثر من 27 دولة إفريقية قنصليات في الصحراء المغربية (العيون والداخلة)، ما يُعد انتصارًا دبلوماسيًا كبيرًا للمغرب على حساب الجزائر.
هذه الاستراتيجية المغربية أربكت الدبلوماسية الجزائرية، التي لا تزال تُدار بمنطق الحرب الباردة والخطابات الإيديولوجية، في حين يُراكم المغرب نقاطًا دبلوماسية هادئة ومؤثرة.
الجزائر… أغلقت الحدود فعزلها الجغرافيا
منذ العام 1994، قررت الجزائر من جانب واحد إغلاق حدودها مع المغرب، في خطوة فسرتها بأنها رد على “إجراءات أمنية مغربية آنذاك”. لكن العقود التالية أثبتت أن هذه الخطوة ارتدت عكسيًا على الجزائر:
فبينما توسّع المغرب غربًا وجنوبًا نحو الأطلسي وإفريقيا،
وجدت الجزائر نفسها محاطة بجيران غير متعاونين أو على خلاف مباشر معها.
والنتيجة؟
باتت الجزائر لا تملك اليوم حدودًا مفتوحة سوى مع تونس وموريتانيا فقط، فيما أُغلقت في وجهها حدود المغرب، مالي، النيجر، وليبيا، إمّا بفعل القطيعة أو بسبب تدهور العلاقات أو ظروف أمنية خطيرة. وكأن التاريخ يعيد كتابة المعادلة:
“أغلقت الجزائر حدودها على المغرب، فأغلق الله عليها حدودها، فعاشت جغرافيًا في عزلة، وسياسيًا في متاهة.”
مآلات السياسة الخارجية الجزائرية
بات من الواضح أن الجزائر تعاني من اختناق استراتيجي في سياساتها الخارجية، يتجلى في:
1. انعدام الرؤية المستقبلية: غياب خطة واضحة للتعامل مع التغيرات الإقليمية؛
2. فقدان الثقة من الجيران: من “شقيق كبير” إلى طرف مقلق وغير موثوق؛
3. الارتياب من النجاحات المغربية: فكلما تقدم المغرب في إفريقيا، ازداد الانفعال الجزائري دون نتيجة عملية. بدل أن تبادر الجزائر إلى مراجعة سياساتها الخارجية والبحث عن فرص شراكة حقيقية، تواصل الانغلاق والخطاب العدائي، ما يجعلها في حالة عزلة متعمقة تزيد من هشاشة وضعها الإقليمي والدولي.
خاتمة: من عقدة القيادة إلى واقع العزلة
التحدي الذي تواجهه الجزائر اليوم ليس عسكريًا ولا أمنيًا، بل دبلوماسي واستراتيجي بامتياز. فبينما تُصر على الهيمنة الأيديولوجية والتحركات الانفعالية، ينجح المغرب في كسب قلوب وعقول شركائه الأفارقة عبر مشاريع حقيقية، وشراكات مبنية على الاحترام والمصالح المشتركة.
قد تكون حادثة الطائرة المسيرة مع مالي حلقة صغيرة في سياق أكبر من الارتباك الجزائري أمام التحولات الجيوسياسية في إفريقيا. وإن لم تراجع الجزائر ذاتها، فقد تجد نفسها قريبًا خارج لعبة التأثير تمامًا، في قارة أصبحت ترى في الرباط شريكًا حقيقيًا، وفي الجزائر فاعلًا من الماضي.