أمازيغياتبورتريهاتوجهات نظر

حسن إد بلقاسم… رجل حمل صوت الأمازيغية الى الأمم المتحدة

كان لي شرف أن ألتقي، في محطة القطار بالعاصمة الرباط، بالمناضل الحقوقي والمحامي الأستاذ حسن إد بلقاسم، أحد الوجوه البارزة التي بصمت تاريخ الحركة الثقافية الأمازيغية في المغرب على مدى عقودٍ طويلة. لقاؤنا كان قصيرا، لكنه كان كافيا لاستحضار سيرة رجل يجسد مسار نضال بأكمله، نضال من أجل الكرامة، واللغة، والهوية، والحرية.

فمن خلال مسيرة الأستاذ حسن إد بلقاسم، يمكن قراءة تاريخ الحركة الأمازيغية منذ ستينيات القرن الماضي، مرورا بسنوات الجمر والرصاص، وصولا إلى الألفية الجديدة التي حملت ثمار النضال الطويل.

لقد كان إد بلقاسم مناضلا صلبا في صفوف اليسار التقدمي ( منظمة 23 مارس)، ثم تحول بعد تجربته المريرة في السجن إلى أحد أبرز الأصوات المدافعة عن الحقوق الثقافية واللغوية الأمازيغية. فقد ذاق مرارة الاعتقال في السبعينيات بسبب مواقفه، بل رُوي أنه حين كانت والدته تزوره في السجن، مُنعت من التحدث معه بلغتها الأم، الأمازيغية، وأُرغمت على التكلم بالعربية رغم أنها لم تكن تعرفها، وهو الموقف الذي خلّف في نفسه جرحا عميقا فتح له طريق النضال الثقافي والهوياتي.

بعد خروجه من السجن، أسس الأستاذ إد بلقاسم مع ثلة من أبناء البادية والهوامش بمدينة الرباط نهاية السبعينيات منظمة تاماينوت، التي أصبحت إحدى أهم الجمعيات الفاعلة في المشهد الثقافي الأمازيغي، وامتدت فروعها إلى مختلف المدن والقرى المغربية، مساهمة في نشر الوعي بالهوية الأمازيغية وحقوقها في أوساط النخب والشباب والأطفال.

وكان الأستاذ إد بلقاسم من أوائل من رفعوا رموز الأمازيغية في الفضاء العام، إذ يعتبر أول محام يكتب لوحة مكتبه باللغة الأمازيغية وبحروف تيفيناغ في الثمانينيات، في خطوةٍ جريئة وغير مسبوقة آنذاك. غير أن اللوحة أُزيلت بعد يومٍ واحد من طرف مجهولين بتعليمات من السلطات، في سياق كانت تقمع فيه كل تعبيرات الهوية الأمازيغية. وقد أعيدت اللوحة لاحقا، بعد أن تحولت الحادثة إلى رمز للمقاومة الثقافية السلمية.

كما كان إد بلقاسم كرئيس جمعية تاماينوت من الموقعين على “ميثاق أكادير” سنة 1991، وهو أحد أهم الوثائق المرجعية التي أرست الأسس الفكرية والسياسية لمطلب الاعتراف بالأمازيغية كمكوّنٍ أصيل من مكونات الهوية الوطنية المغربية الموحدة.

ولم يقتصر نضاله على الساحة الوطنية، بل امتد إلى المحافل الدولية، حيث شارك بمعية رفيقه الراحل أحمد الدغرني في مؤتمر جنيف سنة 1993، ليُدخلا للمرة الأولى قضايا الحقوق الثقافية واللغوية الأمازيغية إلى جدول أعمال الأمم المتحدة. ومنذ ذلك الحين، واصل إد بلقاسم مسيرته كخبير دولي في قضايا الشعوب الأصلية، حتى صار من أبرز الأصوات الإفريقية داخل أروقة الأمم المتحدة.

وقد نال اعترافا أمميا رفيعا حين تمّ اختياره خبيرا أمميا في منتدى الأمم المتحدة الدائم المعني بقضايا الشعوب الأصلية، وهو المنتدى الذي أُسس سنة 2000 بقرارٍ من المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة. مثّل إد بلقاسم إفريقيا في دورتين متتاليتين، وأسهم في إعداد العديد من الوثائق المرجعية التي تدافع عن حقوق الشعوب الأصلية في العالم.

وفي يناير 2019، ألقى الأستاذ حسن إد بلقاسم مداخلة قوية في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، بدعوة من رئيستها، بمناسبة الافتتاح الرسمي للسنة الدولية للغات الشعوب الأصلية، التي أعلنتها الأمم المتحدة تنفيذا لقرارها رقم 156/73. وقد كانت كلمته دفاعا صادقا ومؤثرا عن لغات الشعوب الأصلية، ممثلا لإفريقيا في هذا الحدث التاريخي.

وفي مداخلته تلك قال الأستاذ إد بلقاسم:

“لقد قدمت الأمم المتحدة أكبر خدمة للبشرية باعتمادها إعلان حقوق الشعوب الأصلية، ولو بعد ستين سنة من اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. غير أن الاستجابة للمعايير الواردة في الإعلانين معا ما تزال تعاني من عرقلة السياسات الاستيعابية التي تنتهجها أغلب الدول في إفريقيا والعالم.”

بهذه الكلمات لخص الرجل رؤيته الحقوقية والإنسانية، التي تجمع بين عمق الانتماء الوطني واتساع الأفق الكوني.

وإلى جانب نضاله الحقوقي، فإن الأستاذ حسن إد بلقاسم شاعر وقاصّ، وله دراسات فكرية حول الحقوق الثقافية واللغوية وقضايا الشعوب الأصلية، مما يعكس تداخل الجانب الإبداعي في شخصيته مع مساره النضالي. فهو يجمع بين الحس الإنساني المرهف، والفكر الحقوقي الصارم، والرؤية المتبصرة التي جعلت منه رمزا من رموز النضال الأمازيغي والديمقراطي بالمغرب.

لقد آمن إد بلقاسم بأن الأمازيغية مكوّن أصيل في الهوية الوطنية الموحدة، وليست نقيضا لها، وأن الاعتراف بها هو خطوة في طريق بناء مغرب ديمقراطي متعدد، متصالحٍ مع ذاته وتاريخه. وقد أثبتت التجربة أن هذا الإيمان لم يكن مجرد حلمٍ ثقافي، بل مشروع وطني تحققت ملامحه مع خطاب أجدير التاريخي سنة 2001، وتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وترسيم الأمازيغية في دستور 2011…، وكلها محطات تشهد على ثمرة نضال طويل شارك فيه إد بلقاسم ورفاقه بإيمان وصبر وثبات.

إن الحديث عن الأستاذ حسن إد بلقاسم هو في جوهره حديث عن مسيرة جيل من المناضلين الذين وضعوا اللبنات الأولى لبناء وعيٍ جديد بالهوية والثقافة والكرامة. رجل جمع بين الفكر والممارسة، بين الوطنية والكونية، وبين القلم والمنبر الأممي،

فاستحق أن يخلد اسمه في ذاكرة المغرب الحديث، كأحد أولئك الذين صانوا نبض الهوية الأمازيغية، وحملوا شعلتها في دروب الإنسانية، أمينا على الذاكرة، وحارسا لجوهر قيم التنوع والتعدد الثقافي، والعدالة الاجتماعية والمجالية، والكرامة الإنسانية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى